أقف الآن بعد طول الرحيل , لألتقط أنفاسي وأدير النظر حولي لأرى معالم الطريق جيداً كي أواصل المسير وأكمل رحلتي التي تبدأ مع كل خطوة ولا تنتهي بعد كل خطوة ..
لم تعد قدمي تسألني عن طول الطريق وأعباء المسير ، ولم تعد تلح علي بالوقوف والعودة .. بل أخذت حركتها تنسج أكفان الصمت فوق حروف الحيرة الثائرة . وتثير النقع وتمضي واجمةً قانعةً أو مقنَعةً بقدرها ومصيرها ..
أدركَتْ بتعبها شياً لم أدركه ولم يخطر ببالي أو يدر بخلدي , وعرفت منذ الخطوات ألأولى أنها تطأ على جبين اللحظات الهانئة ,وتنفخ روح التمرد والإستقلالية في جسد متعب ، بشيء من التغافل عن الواقع وحقائق الأشياء ، ومع ذلك تأبى إلا أن تقوم بدورها وتطلق آخر رصاصة في وجه رغبتها في الأنثناء ولي أعناق الخطى الشاردة إمعاناً في ردة الفعل الحانقة ..
وها أنا الآن أكمل المسير , وأشعر بالحنين التائة المنطلق بشغف يسلب من النفس التؤدة والأناة , و يدفعها كالوقود الذي يدفع الآلة عندما يحترق في ثنائية الفناء والبقاء ..
كلما سمع القلب صوته المبحوح الحزين يتسلل إلى مسمعه تسلل الرياح التي تحمل اللقاح بين أعواد القمح المضطربة , هب في ذعر ووجل ينشد أفياء الدعة والسكون خلف عيون الطرقات وقناديل الشرفات الغائرة على مرمى البصر في ناصية مدائن الشوق البعيدة ..
كم أشعر بالرغبة في الوصول .. وكم أفقد الأمل في الوصول .. وكم أستعذب الحرقة وأشعر بلذة الألم ونشوة الإجهاد والفتور ..
متى سأصل ؟
وهل سأقف على قارعة الطريق فوق التلال المطلة على تلك المدينة الوادعة لأقرأ رسائل الإغتراب في صندوق الرسائل بجوار الطريق على مشارف المدينة الصغيرة ؟
وحتى يسلمني الطريق إلى غايتي , ويودعني بين مآقي اللهفة الجارفة , أنا أمضي لا أحمل شيئاً ولا أحفل بشئ ولا أختطف الملامح الباسمة على جانبي الطريق .. ولم تختطفني هي أيضاً , إلا مرةً حين رأيت أسرابا من الطيور البريئة من تهم الشعراء ، تصادم العواصف الرملية الغاضبة لتمزق الرياح وحدتها وتشوه تآلف أنساقها البديعة .. كان مشهداً يترجم لغة الطير وهي تحكي سخافة أنها تمثل الرومانسية الدافئة والانسجام الرقيق ..
مشيت ثم مشيت ثم مشيت ... وكلما اقترب الهدف ابتعد , وكلما صدقت عيني كذبت , وكلما راود الجد نفسي لعبت , وكلما راودني الطريق ومناني لعنته وعبست في وجهه المتقلب ..
وبعد طول حيرة قالت لي نفسي سائلة ..
أتظن يا هذا أنك ستصل ؟
أم تظن أن الرحلة قاربت على الإنتهاء ؟
وهل أنت متأكد من أن الطريق الذي تسلكه هو طريق غايتك المنشودة ؟
وحتى لو لقيت غايتك .. هل ستقر عينك ويهدأ بالك وتسكن ثورتك ؟
وهل يعبأ بك أحد ؟.. أو يشعر بك أحد ؟ .. أو يسمع بكاءك أحد ؟
قاطعتها قائلا ..
مهلا مهلا يا نفسي .. فقد آن لي أن أسأل ..
إلى أين ياقدمي ؟