المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (قصة)واسّاقطت أوراق الخريف !


أبو ياسر
06 / 10 / 2008, 59 : 08 AM
لمشاهدة مشاركات هذا القسم يجب ان تكون مشاركاتك 10 أو أعلي. عد مشاركاتك حالياً 0 .
واسّاقطت أوراق الخريف !

طُرق البابُ طرقاتٍ ثلاث!

لم تعتدْ (أم محمد) أن تستقبل أحداً بعد اختفاء زوجها!

كانت تندب حظها على فراقه، وتعد الليالي والأيام للقائه، فراقٌ عاثر.. مؤلم.. لايوصف.

غُصنها .. يَعصره الظمأُ، تتقاذفه الريح، يستحيل حطباً، يحترق .. لا يأبه الناس به!

تتذكر أيامه المعدودة معها، حَكاياه الماتعة، قلبه الكبير.. الذي وسِعَ الأقربين والأبعدين، همساته التي أضحتْ رسوماً بالية ..

تتذكر تلك الليلة التي بكى فيها من أجلها، كانت تُعاني آلامَ الطلْق المريرة، لم ينم ليلتها، لم يَغمض له جفن، كان ذلك رسولَ حبٍ صامت ..

كلما تذكرتْ ذلك كله .. فكأنما نصلٌ جديد .. يستقر في فؤادها، وينكأُ جرحاً قديماً أبى أن يندمل!

- نعم .. ماذا تريد ؟

أجابتْ من خلف الأستار!

كان الطارقُ رجلاً عشرينياً، يرتدي زيَّ (عمال الصيانة) لشركة التكييف (الوطنية)، ويحمل أدواته بين يديه .. أخبرها بأنه أتى لصيانة أجهزة التكييف!

أيقنتْ بأنه قد ضلّ طريقه، فلم يسبق لها طلب مثل ذلك، وكيف تهتم بصيانة الأجهزة.. والإنسان الذي بداخلها يبحث عن فُتاتِ حبِّ ضائع، ويمد يديه من أجل لقاء حبيبٍ طال انتظاره؟!

ردته بلطف، وأغلقتِ الباب.

حياةٌ رتيبة، بائسة، منسلخةٌ من كل إحساس، تسعةُ أشهرٍ بلأوائها وبلائها .. ولم يصلها أي خبرٍ عن (أبي محمد)‍!

هل ماتَ، وأصبح نسياً منسياً؟‍‍‍

هل وضعوه في (غيابة جبٍّ) لا يكاد يمد رجليه فيها؟

أتُراهُ رُحِّلَ بعيداً .. هناك ، حيث تُنصَب نواقيس الخيانة.. في جزيرة (كوبا)؟!

أم أنه مازال في صفوف المجاهدين، يخطط لعمليةٍ من خلف الأستار؟!

قد يتصابر المرءُ لفقد عزيز، أو لهجر حبيب، والزمن كفيلٌ بالنسيان، لكن .. أنْ يبقى قلبه معلقاً بين اليأس والرجاء، يترقب النعيَ كل صباح .. فهذا لا يُطاق!

طُرقَ الباب ثانيةً، ولكن بعنفٍ هذه المرة!

نَفْْْسُ الصوت، ونفس الحجة!


- قلتُ لكَ .. لا نريد منكَ شيئاً، ولا نحتاج أي خدمة!


غَالَبَها في دفع الباب، وأَسَرَّ لها ببعض الكلمات، ثم ولَجَ الدار، وأوثَقَا رِتَاجَ الباب خلفهما!

***

الساعةُ السابعة مساءً، تكتظ (بغداد) بالحركة والضجيج.. أثناء تهافت الناس على السوق الشعبي لشراء حاجياتهم (الضرورية)، إذْ أن الحرب قد مزّقت كل مظاهر الترفِ، وحصار العقود الطويلة أنساهم صخب الحياة، ونعومة القرن المتحضر!

خبزٌ، ودواء.. هذا ما يشغل ربَّ كل أسرة، اختفت معايير المباهاة والمفاخرة، حتى اللبس لم يعد ذا قيمة، فحسبهم ما يستر أبدانهم، ويقيهم القيظ والزمهرير!

كان حيُّ (صلاح الدين) صامتاً كعادته، أَلِفَ الأنين، ودمع السحر، عشرُ سنوات، عشرون سنة.. أكثر، والجراح تتلو الجراح، يفيق من مأساة، فتُطْبِقُ أخرى، يتنفس الحصار، يقيءُ الألم، رأتِ النورَ أجيال، وفنيتْ أجيال، ونِصالُ الفزع ما زالت تتهاوى على فؤاده!

تقطنُ أم محمد شمالَ هذا الحي، لم تُبارح مسكَنها منذ اختفاء زوجها، كان يردد دوماً أنه يفضل أن يَقضِي شهيداً، يَدفع المحتل، ويسعى نحو تحقيق الدولة (الحلم)؛ على أن يُسْلِم يديه للأغلال!

***

وقَفَ الزمن لحظة، وفاحتْ رائحةُ الصمت في الأرجاء!

احتضنها (عامل الصيانة) بشوقٍ وجنون!

طارحها الحبَّ والذكرى، ناجاها .. كعروس في خدرها!

- ماذا فعلتَ بنفسكَ .. أبا محمد؟!

قالت له، ونشيجها يُغالبُ أحرفها!

انعقدَ لسانها من كل حديث، والْتهبتْ شرارة الحب الدفين، اتّشَحت الحجرة بلونٍ باهتٍ غريب!

- فاطمة .. حبيبتي .. سامحيني!

تلعثمتْ كلماته، وكلماتها!

تسعةُ أشهرٍ بتمامها!

لقاءٌ صامت، ثرثر فيه الحزن كثيراً، وتحدّث بلغةٍ لا يفقهها إلا مَن عَاقَره البؤس حتى ملّه، ولاكه القهر حتى مجّه!

شَحُبَ لونه، وضمر بدنه، غشى وجهه مسحة حزنٍ بائسة.

تسعة أشهرٍ كانت حُبلى بالدمع والأنين.. ثم لقاءٌ يتيم، وعلى غير ميعاد!

يأسٌ، وقنوط، ومعاناة .. ثم انبثاقُ نورٍ خافت!

حزِنتْ!

هي تعلم أنه لن يبقى طويلاً، منزلها مراقب، حملات التفتيش تستعر، تعجّبت من جُرأته، ودهاءِ فكرته.

حدّثها عن حياة التخفي، والتنقل المستمر، حدثها عن شظف العيش ووطأته، حدثها.. كم كان يَذْكُرها، ويحن إليها، بكى، وأبكاها.

قُرِعَ البابُ بعنفٍ موحش!

أحسّ بجلبةٍ وضجيج!

أيقن بأن الخيانةَ قد رفعتْ عقيرتها، وأن صديقه القديم (مبارك) قد شراه بثمنٍ بخس .. دراهم معدودة!

أقنعه بأن دربه آمن، أخرجه من خِبئه، ساعده في خطته "التنكرية"، أوهمه بأنه سيرتب (كل الأمور)، وسيُحكمُ حبكة (كل الفصول)، ساعده في التحايل على الجهات الأمنية؛ بتنكره بزي عمال الصيانة، خطّةٌ محكمة .. هكذا أوحى له!

مكبرات الصوت تناديه باسمه .. سلِّم نفسك .. أنت مُحاصر.

كان الظلام طاغياً، والخيانة تَعرِضُ نفسها على قارعة الطريق!

أنْ يقتلك عدوك، أو أنْ يُجيِّشَ جنده ضدك .. فكل الأعراف تتفهم ذلك، وتؤمن به، لكن .. أنْ تتلقى الطعنةَ من خلفك، وبخنجرٍ طالما تظاهر بأنه في صفك، وأنه يظلِّلك بعرش (الأخوة)، (والحب الصادق) .. فهذا قمة الألم، والقسوة، والنكران!

ازداد الطرق عنفاً، التهديدُ قائمٌ باقتحام البيت، قبّل زوجته قُبلةَ الوداع الأخيرة، ضمّ وحيده بحرارةٍ بالغة، ربما سيكون لقاؤهم الأخير بطعم الموت والدماء!

كانت دمعاته أقوى من صبره وتجلده.. فتساقطت على خديه.

حاكاه صغيره (محمد) بكل براءة:

- "الرجّال ما يبكي يا بابا"

غالبَ نشيجاً أبى إلا أن يخونه أمام طفله، هو علّمه ذلك، ورجاه ألا يبكي عندما يبلغه خبر اعتقاله، أو موته، تساقطتْ رغماً عنه، سياطُ الفراق تلتهب، تَبرقُ أمامه، موجعةً كانت، إنسانيته طغت..

فلذة كبده.. زوجته، لم يكن يتمنى أن تكون نهايته بهذه الطريقة!

مكبِّرات الصوت .. تنعق بصوتٍ نشاز!

ازدحمتْ الأفكار في رأسه، قلّب ناظريه بين فاطمة ومحمد، يده على قلبه، يكاد ينفطر، لن يستسلم، يعرف مصيره إنْ هو سلّم نفسه لجلاده..

(أبو غريب).. (غوانتانامو) .. أحلاهما مر!

- فاطمة.. حلليني، واحفظي أمانتي عندك .. محمد!

- .........

وتحدّث الدمع بينهما ، وأفصح.

نادى بأعلى صوته:

- سأُسلِّم نفسي.. على ألا تتعرضوا لزوجتي وطفلي.

هدأت "المكبِّرات"، سيتجنب الجميع الخوض في بركة دماءٍ رخيصة، تنفّس الجميع الصعداء، صوت (العقل) مازال له بصمة، وإن كانت باهتة الألوان!

فَصَلَ (عدّاد) الكهرباء، وهرَب من نافذة المنزل الخلفية، قفز إلى منزل مجاور!

بكتْ فاطمةُ في صمت، احتضنت صغيرها في زاوية الغرفة، وهي تسمع تبادلاً كثيفاً لإطلاق النار، قلبُ أنثى، يصارع أهوالاً لا طاقة له بها، كانت الصدمة أكبر منها، يتقيح جرحها، يلفّها الأسى من كل صوب، غرباء يفترسونها بألْحاظهم، يتفتت قلبها مرتين، مرة من أجل زوجها، وأخرى .. أسفاً على (المعتصم) الذي خانها، أنثى.. لا تملك حولاً ولا قوة.

أُصيبَ بطلْقٍ ناري في (كتفه) الأيسر، واصلَ الهرب، كان يحمل سلاحاً تحت معطفه، قُتل سائق (أجرة) أثناء تبادل إطلاق النار، صادف ذلك وقوع حادث سيرٍ، وتجمهر كبير، اندسّ بين الجموع، ثم توارى عن الأنظار.

اعتقلوا فاطمة، بتهمة التواطؤ، وأنها كانت تعلم مُسبقاً بقدومه.

مكثتْ في السجن خمسةَ أشهر، أُطلق سراحها بكفالةٍ من أحد الوجهاء.

***

كانت أم محمد تداوم على صلاةِ التراويح في جامع (الزبير بن العوام)، المجاور لمنزلها، الحياة رتيبة، ومقفرة من كل إحساس، بكاءٌ مستمر، سهرٌ لا ينتهي، إلا أن هذه الليلة كانت على غير عهد بمثيلاتها!

- أم محمد؟

- مرحباً أخيّة.. أي خدمة؟

كانت هذه المرأة تسترق النظر إليها كل حين، كأنما تُحاول التبين من قسمات وجهها، طلبتْ أن ترافقها إلى بيتها، لأمر مهم جداً !

ترددتْ كثيراً، لم يسبق لها استقبال أحد بعد خروجها من السجن، وهذه امرأة لا تعرفها، والأمر ضروري جداً !

خافتْ أن يكون ذلك طُعماً آخر، أو لعبةً جديدة من (بعض الجهات)!

قدّمتْ لها الشاي، وضيّفتها بما تيسّر..

- فاطمة .. هذه (محفظة نقوده)، يسلّم عليكِ، ويطمئنك على صحته، هو في مكان آمن، يوصيكِ خيراً بمحمد.

انهتْ هذه العبارة .. وانصرفتْ، محجبةً كانت، لم تنـزعه طيلة حديثها.

وجدتْ في المحفظة خمسة آلاف دولار، ورسالة خاصة، ذكّرها أن هذا الدرب طويل وشاق، تحدّث عن سنة الابتلاء والتمحيص، أوصاها بمحمد، ذكَّرها بأنه ليس ابنها فحسب، بل للشهادة نصيبٌ منه، ذكّرها (بوعد السيادة) الذي عقداه سوياً، وتعاقدا على الوفاء به ، ..

بكى محمد لرؤية محفظة والده، كثيراً ما كان يعبث بها، ويضعها في جيبه، كان يُلح على والده أن يشتري له مثلها إذا صار كبيراً مثله.

رأتْ وليدها يبكي.. فبكتْ لبكائه ..

كثيراً ما تكون دمعات الأطفال موجعة، وقاسية!

::

طُرِقَ الباب طرقةً واحدة!

اهتزّ قلبها، حدّثها أن ذلك نذير شؤم، هي تؤمن بالتلازم بين حديث القلب والواقع، تطابَقَا غيرما مرة!

.. مُداهمةٌ جديدة!

فتشوا البيت.. بدقةٍ هذه المرة!

وجدوا النقود، والرسالة!

.. تساقطت أوراق الخريف بأسرها، وأظلم كل شيء، وأضحت آمالها كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف !

لم تحتجْ أم محمد لفطنة كبيرة لتتوقّع الحدث التالي ، فقد ترجّلَ الأمل عن رِكَابه، وأتاها مُنكِّسا راياته!

لبستْ عباءتها، والحوقلة لا تفارق شفتيها!

كتبه:

محمد بن صالح الشمراني - الظهران

المصدر:لجينيات