[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/ALIGN][ALIGN=center]
مرحباً بكم جميعاً ، يقولون بأن اللقاء الأول يعطي انطباعاً يصعب نفيه عن النفس، لذا احترت كيف يكون هذا اللقاء و عن أي موضوع أحدثكم ، فأنا في النهاية لا أتحدث إلى نفسي ، و حاذروا أن تصدقوا من يقول أننا نكتب لأنفسنا ولا يهمنا القراء ، و يكفي في رد قوله أن ما دامت كتابتك لنفسك فلماذا تنشرها إذن!؟
بدا لي أن أحدثكم في لقائنا الأول عن جاش و زيارتي لها فأقول مستعيناً بالله :
إن من طبيعة العرب استلهام الذكرى من عبق الأيام الراحلة ، و تتبع آثارهم على صفحات الأيام الخالية ، فيقصدون مسارح الحياة الذاهبة، و يغرقون خشباتها بالدموع الحارة، فأردت أن أسير سيرتهم الخالدة، فقررت أن أزور جاش القرية، لأطالع مراتع طفولتي الغابرة ، و أنقب عن بقايا حياة خلفتها ورائي..
لا تسألوا هل تحب جاش أم لا !!
كل ما أعرفه أني لما رأيتها خفق قلبي !!
فيا أهل الهوى أفتوني في أمري إني أراكم للهوى تعبرون !!
أتعلمون – يا أخوتي و أخواتي – كنت أعتقد لفرط جهلي، أني نسيت جاش ولا أحمل تجاهها أي عاطفة، ولكني لما رأيتها وشممت روحها ولمست أنحاء جسدها كدت أذوب !! وقلت ربي إن لم تعصمني لأكوناً من الغاويين !!
خلوت بنفسي ولم أصحب أحداً من الناس، فهناك عشت حيوات كثيرات ستغنيني مرافقتها عن كل رفقة،فكنت في جاش طفلاً ثم صبياً ثم فتى ، أريد أن أننفض عنهم جميعاً غبار الزمن ، أرأيتم عالم الآثار لما يقع على فسيفساء مدفونة تحت الأرض ، فيبدأ بفرشاة صغيرة ينفض عنها الغبار حتى تكون صورة كاملة تحكي لنا حكاية من حكايات التاريخ، أريد استرجاع لحظات أفراحهم و أتراحهم ،لأبكي معهم إذا حداني البكاء أو أضحك لهم إذا استثارني الضحك!!
ركنت سيارتي بالقرب من المسجد الذي بناه جدي – رحمه الله - ، وفتحت بابه فاشتد علي فبدأت بدفعه حتى بدت فرجه يمكنني أن أدخل منها ، استويت في وسطه، و رحت أجول بناظري في أنحاءه، إذا به على حاله التي تركته عليها ، أعمدة الإسمنت التي تسند سقفه لم تزل صامدة في وجه عواصف الزمن، و في قبلته المنبر الذي كنت أحياناً أقف فيه خطيباً ولكن لوحدي!، ونوافذه من الحديد خضراء اللون تحيطه من جوانب ثلاث ، جزءه الأمامي مغطى و الجزء السفلي مكشوف، توقفت عند كل عمود من أعمدته و بدأت الذاكرة تسرد علي آلاف المشاهد التي وقعت في هذا المسجد ، و رأيت طوبات الإسمنت التي وضعت محراباً للمصلى المكشوف مرصوصة كما هي،فهنا كان يقف والدي إماماً و جماعتنا في هذا الصف ، لقد كان كل شيء في هذا المسجد يبعث على الخشوع فنضع جباهنا على الحصباء ، وبعد السلام نرفع أنظارنا إلى السماء، فإن كنا في المساء نشعر بأن النجوم و القمر يشاركونا التسبيح و الدعاء ، أتعلمون لقد تذكرت أمراً ضحكت له ضحكة تعانقها عبرة، فمؤذن المسجد هو حمد بن مناحي – عليه رحمة الله - ، كنت حيناً أترصد له فإذا رأيته اقترب من المسجد رفعت صوتي بالأذان !، فلم يكن ينهرني غاية ما يفعله هو أن يؤذن فيعلو صوته صوتي فأتوقف ،و بكل سذاجة أقوم بمساعدته على فرش السجاد في باح المسجد إذا كان وقتنا ليلاً .
خرجت من المسجد و مشيت ناحية المنزل و استدرت حوله، و رحت أسير على خطاي التي كنت أسيرها و محلاتي التي ألعب فيها أنا و أصدقائي ، مرت علي مراحل عمري سراعا، ولكل مرحلة صورة باهتة الألوان غامضة الملامح ، مثلها مثل لوحة لرسام مبتدئ رسم رسمة و لم يكملها، فهذا طفل صغير ينساب على جسده الغض ثوب أبيض و يعتمر طاقية مشوبة بخيوط مذهبه و ينتعل حذاء أسود اللون ، كان يحلم كما الأطفال جميعاً ، فقد يكون منتهى أمله أن يصحب والده إلى السوق، أو أن يذهب مع والدته إلى الجيران ، أو أن يشتري لعبة صغيرة يلهو بها ، و كان أيضاً يحزن كما يحزن الأطفال جميعاً، نعم لقد تذكرت!! لقد بكى هذا الطفل الصغير لما توفي خاله ، فقد رآه مسجى برداء الموت والدماء تغطي أجزاء جسده ، كان ينظر إليه مندهشاً ، سمع من حوله يقولون: مات! ، وهو واقف لم يصدق فالتو لعب معه الكرة و لتوه تحدث إليه!! انزوى الطفل في ركن منزله وحذروه أن لا يخبر أمه التي لم تعلم بموت أخيها بعد ، كانت تسأله لماذا تبكي يابني، فيجيب سؤالها بالبكاء و لا شيء آخر!!
حقاً بدت ملامح الطفل تتشكل أمامي الآن ، و لكن تباً !! أين ذهب هذا الطفل ، كم يؤسفني أنه رحل دون أن أودعه ، كان طفلاً!! لله قلبي ما أقساه ..
أهكذا نحن يا سادة نودع أغلى ما نملكه وهي أيامنا و ليالينا، بل و أجسادنا دون أن نشعر بألم الفراق و الرحيل ، إلى متى ونحن في غفلة عن هذه الأيام التي تفت في أعمارنا ، ربي أسألك حسن الختام ..
أخذتني قدمي إلى تلة كنت اجلس إليها لتأمل ، فكنت أذكر أني أجنح بخيالاتي كثيراً و أحاول بعقلي الصغير أن أرسم ملامح قادم الأيام، بالتأكيد كانت هناك صور تحققت، و لكن أجملها على الإطلاق تلك التي لم أتخيلها!!
عاودت الجلوس على هذه التلة وأطلقت نظري في الفضاء فتراء لي من بعيد جبل (الجثجاث) و التفت يمينا فرأيت جبل (القضي )، ياه!! لقد أدركت لتو أني سرت في درب الحياة الدنيا طويلاً ، ولم أدرك أني أكبر ، و كلما كبرت ضاقت أحلامي ، حتى بدت تضمحل ، فمثلي مثل طفل يحمل سلة مملؤة و راح يركض بها بين الأشجار فلما توقف ليرتاح وجد سلته خالية ،رحت أنظر إلى الوراء، إلى أيام و سنين خلفتها وهي ملئا بالأحداث ، ما أطول هذه اللجة التي قطعتها ،و ما آسف له أني لم أدرك بعد ما أريد، ياترى متى النهاية و أين مكانها ، لست أدري فأنا مذ خلقت وأنا أجري خلف ماذا يسمونه !
نعم إنه المستقبل ، أيها المستقبل تعال إن كنت تسمع، أقسم أني تعبت و أنا أبحث عنك، فأنا في صغري لم أتعلم المشي إلا لأجري خلفك ، فرأفتاً بحالي توقف دعني أدركك، و عندها لن أفلتك إنه وعد!!
الخاتمة .. عدت إلى المسجد ورفعت الآذان ، و هنا لم يأتي الشيخ حمد بن مناحي -رحمه الله - ليقاطعني، و ختمت زيارتي بالصلاة ...
طاب مسائكم ..[/ALIGN][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
تعليق