كثيرا ما نسمع ونقرأ في خطابات المشهد الثقافي بمصطلح البراجماتية .. فتارة يأتي في سياق تحليل النماذج الفكرية والاجتماعية والسياسية ، وتارة في وصف العلاقات الثنائية والمتعددة داخل هذه التماذج ، وتارة في توجيه صيغ الاستراتيجيات المطروحة لانجاز المشروعات ، وغير ذلك من السياقات المتعددة التي يرد فيها هذا المفهوم ..
فماذا نعني بالبراجماتية ؟ أو ما هو المنهج البراجماتي بالرجوع إلى حقيقته الفلسفية ؟ وما هي أبرز النتائج لهذه الفلسفة في واقع الحياة البشرية ؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا المقال ولو بشكل مختصر .
في الحقيقة قبل الكلام عن هذه الفلسفة يجدر الحديث عن السياق التاريخي الذي نشأت فيه ، بوصفها تجليا من تجليات الفلسفة المادية التي طغت على واقع الحياة الغربية خلال القرون الماضية ، وفي العديد من المستويات والأوساط .. فمنذ انشغال الفلسفات الغربية بمشكلات الوجود ونقد الحقائق الكلية والجزئية للظواهر والأشياء ، وبدءا بالثورة الكوبرنيكية والهيجلية – نسبة إلى هيجل الذي نقد المنطق اليوناني بشكل صريح – ومرورا بالشك عند ديكارت وتفكيك الحقيقة الوجودية عند هيوم ونقد العقل المجرد عند كانت ، و صولا إلى نظرية النشوء والتطور أو ما يعرف بالداروينية وهي الفلسفة التي استهانت بالجنس البشري ، إلى درجة أنها كانت هي الوقود الذي يحرك أعتى الدكتاتوريات في العالم ، لخوض أشد الحروب دموية على مر التاريخ * وانتهاء بالنسبية العامة والظاهراتية عند هوسرل إلى غير ذلك من النماذج الفلسفية التي تتجاذب الإنسان الغربي لعقود طويلة بين المثالية والواقعية وبين الشك واليقين ، حتى أخذت الفلسفات المادية تسيطر على شتى مناحي الحياة الغربية ، لتأتي البراجماتية كنتيجة حتمية لهذا الصراع الفكري الطويل ، وامتدادا لجموح النزعة المادية في النفس البشرية .
ظهرت هذه الفلسفة أول ما ظهرت على يد الأمريكي تشارلز بيرس في أواخر القرن التاسع عشر ، ثم برزت هذه الفلسفة كأقوى الفلسفات الغربية تأثيرا في العالم الجديد على يد الأمريكي وليم جيمس الذي اسس لها كنظرية جديدة وصالحة لتفسير أي ظاهرة في الوجود زعم .
وقد جاءت هذه الأسس في كتابه البراجماتية بشكل واضح ومفصل ، ولهذا يعد جيمس هو فيلسوف البراجماتية الأبرز بل هو فيلسوفها الحقيقي .. وتعتبر هذه الفلسفة فلسفة أمريكية بامتياز .
وخلاصة هذه الفلسفة أنه لا يمكن التعرف على حقائق الأشياء إلا بوجود أثر نفعي لها يمكن إدراكه ، وليس هذا يعني أنه لا بد من مشاهدته بل يمكن إدراكه بأي وسيلة من وسائل الحس .
ولنأخذ على هذا مثالا بسيطا .. الكمبيوتر لا يمكن التأكد من حقيقته غلا بوجود أثر نفعي له كاستخدامه في المسائل الحسابية وحفظ البيانات والمعالجة وغير ذلك من الآثار .
وهذا كمثال لتقريب الصورة وإلا فهي ليست بهذه السذاجة وإنما هذا المثال يشبه المقدمات العقلية لفهم أبعاد الرؤية الفلسفية ، فقد وجدت هذه النظرية في صدد البحث عن حل لتساؤلات الوجود وحقيقته ومآلاته وتفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية ، وهو ما قد تجاوزته الأديان منذ بعث الله رسله مبشرين ومنذرين .
وبهذا نعرف أن هذه الفلسفة قائمة على نظرة مادية محضة لا تقيم اعتبارا لأي مطلق خارج إطار المنفعة المادية المحسوسة ، فهي تشبه المراجعة المنطقية قبل الحكم على الأشياء بالقبول والرد ، وهذا ما جعل السؤال عن القيم حاضرا وبقوة في واقع المنهج البراجماتي .
ولعل هذا هو سبب قوة هذه الفلسفة وانطباعها الواضح في مظاهر الحياة الغربية خاصة ، والحياة في العالم بشكل عام ، فتغييب القيم وتهميشها على حساب الضمانات الذاتية هو السائد في العلاقات البشرية اليوم ، وهو أحد الدلائل على تأثير هذه الفلسفة في الحياة العامة .
وقد ظهرت البراجماتية وبشكل صارخ في المجالين الاقتصادي والسياسي ، وهي في الأخير أقوى بسبب النفوذ الواسع الذي تتمتع به السياسة .. فقد جاءت هذه الفلسفة لتطلق العنان أمام الإنتهازية والظلم السياسي في تبرير مواقفها الإجرامية والتوسعية .. وهذا هو الوجه القبيح لهذه الفلسفة الخطيرة ، فبعد تحويل الإنسان إلى سلعة مجردة عن الأخلاق والقيم والمبادئ ، يمكن إقناعه بأن أشكال الظلم السياسي إنما هي لتحقيق المنفعة الذاتية أو الإقليمية أو القومية ** نظرا لكونها هي المعايير المقبولة في عصر مادي أصم .
على أن الظلم والإنتهازية والإنتهاكات الإنسانية في السياسة قديمة بقدمها ، ولعل كتاب( الأمير) لميكيافيللي أكبر شاهد على العقلية الإجرامية التي تحرك معظم الأنظمة السياسية وفيه جاءت عبارة ( الغاية تبرر الوسيلة) لأول مرة في التاريخ ، إلا أن البراجماتية جاءت لتقر هذه الجرائم باسم العقل والمنطق .
ولهذا فإن هذه الفلسفة التي تجعل من الذرائعية والتبريرية منطلقا في تكوين الرؤى الفلسفية الجديدة في التعاطي مع المفاهيم ، تؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ القيم الإنسانية من حيث أن هذه القيم دخلت حيز المساءلة والتشكيك والإختبار وفق معادلة لا مجال للقبول بنتائجها إلا في إطار المنفعة المحسوسة .. كما أن نقطة الانطلاق في عرض القيم الفكرية والإنسانية والمبادئ الدينية والأخلاقية تبدأ من مناطق انعدام القيمة المطلقة والشعور بالإنسانية ، وهي ما يمكن تسميته بمرحلة التجرد ..
ففي هذه المرحلة ليس هناك قيم مطلقة ولا حقائق مطلقة ولا أفكار مطلقة – وهم يرون أن هذه البداية ليست كلية ولكنها نقطة أولى في التعرف على كل مفهوم على حده – غير أنها قد لا تشكل انفصالا تاما عن هذه المفاهيم ، لأن المعالجة تكون جزئية إلى حد ما .. وهنا يمكن فهم ما قاله ديوي أن العقل ليس أداة للمعرفة ، وهو في الحقيقة إنما يتكئ على ما قرره كانت في كتابه ( نقد العقل المجرد ) .
وقد يظن البعض أن هذه الفلسفة لن تأتي بجديد .. من حيث أن النتيجة محسومة سلفا ، فالأثر النفعي حاصل في القيم الإنسانية !! إلا أن هذا الاستنتاج غير دقيق ، فالنفع هنا إنما هو النفع المادي الذي يتعارض في حقيقته مع القيم الإنسانية المتعددة كالتضحية والإيثار وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية أو الإقليمية حسب تراتبية الانتماءات ، إلى غير ذلك من القيم ..
كما أن نظرية الكمون في التكوينات الاجتماعية والتي يوضحها عبدالوهاب المسيري في كتابه القيم (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ) تلعب دورا هائلا في بلورة هذه الأفكار المادية في واقع الحياة البشرية ، فالتسارع المادي في الحياة البشرية المعاصرة منح هذه الفلسفات هامشا كبيرا من التأثير والفاعلية ، وجعل من النتائج المادية الناجزة دليلا على صلاحية الأفكار والمفاهيم ، وهذا الواقع الخطير يجعل مستقبل القيم الإنسانية على المحك .. ومن هنا نعلم أن التمسك بالدين – وهو النموذج الأسمى والأشمل لكل الأخلاقيات والمبادئ الإنسانية – هو الضمانة الوحيدة لحياة هذه القيم واستمرارها وصمودها في وجه عالم مادي مستعر ، يطوي كل هذه المفاهيم ويخضعها للأقوى ، والذي ينتهزها بدوره ويجعلها ستارا لممارسة الظلم وارتكاب أبشع الجرائم الإنسانية .
نقطة أخيرة .. وهي أنه عندما قال مفكرو البراجماتية أن الوجود الإلهي له حقيقة نظرا إلى أن الطمأنينة التي يجدها المؤمن هي أثر نفعي لهذا الإيمان ، ظن البعض أنها فلسفة دينية وتؤمن بالوجود الإلهي الذي نعرفه ، وهذا خطأ كبير فبالنظر إلى الأثر المذكور يتضح أنه لا فرق بين أي إله في أي ديانة في نظر البراجماتتين ، سواء كان هذا الإله هو بوذا عند البوذيين ، أو المسيح عند بعض النصارى ، أو النار عند المجوس ، أو غير ذلك ، فكل ما يطمئن إليه الإنسان ويرى أنه إله فهو عندهم إله ، إضافة إلى كونها لا تلتزم بلوازم هذا الإيمان ومقتضياته إلا وفق النظرية النفعية ، فيتبين بذلك أنها فلسفة مادية لا دينية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * يقر هتلر وستالين وموسيليني بأنهم مؤمنون بالنظرية الداروينية ، ومتأثرون بشخصية داروين ، بل إن كتاب أصل الأنواع لداروين هو الذي شكل رؤيتهم للجنس البشري وجعلهم ينظرون إلى الإنسان على أنه حيوان لا كرامة له ، وإن كان هتلر قد تأثر بنظرية السوبرمان لفيلسوف النازية نيتشة ، وعلى هذا أراد أن يكون هو السوبرمان في الدفاع عن الجنس الآري .
** ما فعله أنور السادات في كامب ديفد يعتبر من الأمثلة على تأثير البراجماتية في العلاقات السياسية ، حيث قدمت المصالح الشخصية على حساب المبادئ والقيم المتمثلة في القضية العربية .
التعديل الأخير تم بواسطة أبو فايز ; 21 / 10 / 2009 الساعة 14 : 02 AM
ابو فايز لا تزال تتميز باسلوبك الرائع
لا اخفييك قرات العنوان ومن ثم بعض الكلمات من بداية الموضوع
وكنت ناوي اني ما اكمل الموضوع ولكني وجدت نفسي اتلذذ باسلووبك الجميل
وانتقاءك المواضيع
شكرا ابو فايز وبالفعل لديك اسلووبك الخاص في انتقاء مواضيعك
تقبل مروري وا عجابي الشديد بك
انار الله دربك
أبو حيبان ..أهلا و مرحبا وحياك الله في هذا المتصفح الذي يتشرف بمرورك .
عسى أن نسهم ولو بجزء بسيط في تقريب المفاهيم ومناقشتها وكشف خباياها .
وإن كنت من أنصار المقولة القائلة ( لكل بضاعة سوق ) إلا أن الأسواق باتت أشد غموضا بعد عولمة رأس المال .. ولذا فإن بعض الشركات المتعددة الجنسيات تجاوزت ميزانياتها ميزانيات بعض الدول الغنية بأضعاف كثيرة .. ولك أن تطرد هذه القاعدة كيفما شئت .. ولك أن تقول أيضا ما دخل الإقتصاد بهذا الموضوع .
ابو فايز
مقال متخصص جداً ، وكنت أظنك في أحد ردودك ذكرت أن لكل بضاعة سوق ...
ظننت عندها ستقول أنه ربما لا يكون هذا المنتدى سوق لهذه الموضوع ولكن لا يمنع من تجربة هذا السوق والمساهمة فيه وإن كان يظن ان هذا المنتدى ليس سوقاً لهذا الموضوع لكن الاسواق تتغير بالفعل.
المقال إضافة تثبت الحراك الشبابي الجاد في هذا المنتدى
نصيحتي المتواضعة هي عند تقديم مفاهيم جديدة أن تقدم بإيجاز ومباشرة حتى تحقق الهدف المطلوب.
شكراً ابو فايز وفقك الله .
الأخ الكريم أبرق الفهود .. حياك الله في هذا المتصفح ..
مداخلتك قيمة أخي الفاضل .. وإن كان صوت الظن فيها مرتفعا ، ولكن لا ضير في الرعي حول الحمى في هذا الشأن .. أما بالنسبة للمقترح فهذا ربما يسوغ قبوله في حدود التعريف بالمفاهيم ، فالتعريف لابد أن يصان عن الإسهاب كما هو معروف ..
ولكن الأمر هنا يتجاوز مجرد التعريف ، فهذه قراءة شخصية مختصرة لهذا المفهوم في سياقات عدة ، تتضمن الإشارة إلى الإنعكاسات الخطيرة لتبني هذه الفلسفة في نطاق واسع ودون موازنة بين السلب والإيجاب في التعاطي معها .. على أن استكثار مثل هذا المقال لا ينبغي بطالب المعرفة .
ودعني أبسط لك القضية .. تعودت يا صاحبي على التحليل والإختصار والنقد ولو بشكل جزئي لبعض ما أقرأ وأطالع .. لأسباب كثيرة لا يسع المجال لتعدادها .. أقلها صهر هذه المعارف الجديدة وصبها في قالب فكري تتسق فيه مع المعارف السابقة لتشكيل رؤية واضحة المعالم تلائم بين الأصالة والتحديث .
فما فعلته هنا هو قراءة شخصية ، انتقلت من طور المسودة الملحقة ، إلى طور المقالة المستقلة .. وتحياتي لك .
البراجماتية : وسؤال القيم ؟
العرض العادي
