المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السعودية والخطوات الجرئية ...


المسردي
08 / 09 / 2003, 15 : 07 AM
السعودية تفعل ما لا يجرؤ عليه الآخرون
بلال الحسن

كانت السعودية حليفة للولايات المتحدة الأميركية ولا تزال. ولكن الولايات المتحدة الأميركية تغيرت. تغيرت كثيرا. ولذلك كان لا بد للسعودية أن تتغير هي بدورها، ولو قليلا. ويمكن أن أغامر وأقول ان هذا التغير قد عبر عن نفسه بثلاث خطوات استراتيجية: العلاقات مع ايران، وخروج القوات الأميركية من السعودية، وزيارة الأمير عبد الله ولي العهد إلى روسيا. إنها ثلاث خطوات تمت على مدى أكثر من عشر سنوات، ولكنها تؤشر إلى تبدل في الرؤية وفي المنهج، ومن خلالها نستطيع القول إن السعودية هي أبرز دولة عربية تعيد النظر في خارطة تحالفاتها، فتعززها وتدعمها بناء على رؤية للتغيرات العالمية الكبيرة، بينما تستنكف عن أداء هذا الدور دول عربية اعتدنا أن تكون هي المبادرة إلى قيادة مثل هذه الأدوار.
عام 1990، وهو العام الذي احتل فيه العراق الكويت، نشأ أبرز تحالف بين الولايات المتحدة والسعودية. جاءت الولايات المتحدة بكل قوتها لتعيد خارطة المنطقة إلى ما كانت عليه، وأتاح التعاون السعودي أن يتم ذلك العمل بقدر أكبر من الراحة والفعالية. ولكن التاريخ يتحرك حسب قوانينه الخاصة، لا يعبأ بدول ولا بجيوش ولا بشعوب، ملقيا عبئه الكبير على الجميع، ساخرا أحيانا، ومقهقها أحيانا أخرى، فترافقت حرب تحرير الكويت مع سقوط الاتحاد السوفياتي، ومع اعلان الرئيس جورج بوش (الأب) بعد انتهاء الحرب عن قيام النظام العالمي الجديد، النظام العالمي الأميركي. ومن دون دخول في تفاصيل تلك التغيرات وأهميتها، إلا أن نتيجتين أساسيتين ترتبتا عليها، وكان لهاتين النتيجتين أثرهما البالغ على الوضع العربي برمته، وعلى الوضع السعودي بشكل خاص، إذ بدأ النظام العالمي الجديد يفرز أولى تداعياته، فالقوات الأميركية التي أنهت مهمتها بتحرير الكويت لم تشأ أن تعود إلى بلادها. رأت امامها فرصة سانحة للبقاء في مياه الخليج وأرض النفط. ثم برز التداعي الثاني لوجود هذه القوات، فقوات ضخمة محتشدة لا يمكن أن تبقى من دون عمل، أو من دون دور، فكان أن بدأ التحريض الأميركي ضد ايران، واتخذ هذا التحريض منحى يضغط على العرب باتجاه القبول بالمساهمة في شن حرب ثانية ضد ايران، التي تشكل حسب التحليل الأميركي، تهديدا لمنطقة الخليج لا يقل فعالية عن تهديد نظام بغداد. وقد رفضت الدول العربية وفي المقدمة منها السعودية، أن تقبل العودة إلى منهج الحرب من جديد، واستخدمت في حينه حججا عملية لتبرير رفضها للمطلب الأميركي.. قالت إن ايران ليست دولة معتدية على بلد مجاور لها، وقالت إن أعباء حرب الكويت ثقيلة بحيث لا تستطيع السعودية تحمل أعباء حرب ثانية، ولكن جوهر الأمر كان مختلفا عن ذلك، كان رفضا للنهج الأميركي الذي بدأ مع الإعلان عن النظام العالمي الجديد. كان يمكن لهذا الرفض السعودي أن يبقى رفضا كلاميا. مجرد خلاف في الاجتهاد بين دولتين. ولكن المفاجأة كانت حين بادر الأمير عبد الله ولي العهد إلى القيام بزيارة رسمية إلى ايران، فتحت عهدا جديدا من التعاون بين البلدين، وشقت طريقا للصداقة بدلا من طريق الحرب. وكانت ايران أكثر من فهم مغزى المبادرة السعودية فردت عليها بايجابية كاملة، وكذلك كانت الولايات المتحدة الأميركية أكثر من أدرك مغزى هذا النهج السعودي الجديد، فتفتحت كثير من العيون والآذان في البيت الأبيض. وكانت هذه هي الخطوة السعودية الجريئة الأولى، من أجل تحصين الذات، في مواجهة النظام العالمي الجديد الذي كان وليدا آنذاك.
وفي سياق هذه العلاقة السعودية ـ الايرانية الجديدة، كانت الجيوش الأميركية لا تزال مرابطة في الخليج، وكان لها وجود داخل السعودية. ولا ندري ماذا كان يدور في الغرف المغلقة بين السعوديين والأميركيين حول استمرار بقاء هذه القوات في منطقة الخليج، ولكننا ندرك بالمنطق أن السعوديين كانوا يدركون أن بقاء هذه القوات يعطل الممارسة الكاملة للسيادة السعودية. وندرك بالمنطق أن السعوديين سألوا أصدقاءهم عن الموعد المحدد لمغادرة هذه الحشود. ولا شك أن حالة من التوتر نشأت بين الطرفين، ولم يخل الأمر من حملات أميركية ضد السعودية، قال فيها أصحابها إن تلك الحشود موجودة من أجل حماية النفط والأنظمة، وردت السعودية بغضب معلنة عدم ممانعتها في مغادرة القوات الأميركية إذا شاءت، واحتاج الأمر إلى تدخل رسمي عال من البيت الأبيض لتهدئة هذه العاصفة. ثم سارت الأمور بصمت وهدوء إلى أن كانت حرب احتلال العراق، وبادرت السعودية إلى الاستفادة من الفرصة السانحة، وطالبت بمغادرة القوات الأميركية لأراضي السعودية، لأنه لم يعد هناك مبرر عملي لبقائها، وتم ذلك بعد اشهر بهدوء، ولكن الهدوء يكون أحيانا أبلغ من الصمت في تصوير حقائق الأمور. وكانت هذه هي الخطوة السعودية الجريئة الثانية، في اعادة رسم علاقات السعودية مع واقع ضغوط النظام العالمي الجديد وتفاعلاته.
وها نحن نعيش الآن تفاصيل زيارة الأمير عبد الله إلى روسيا. زيارة تمد جسر صداقة مع دولة كانت بالنسبة للسعودية دائما دولة خطرة. صحيح أن روسيا خسرت كثيرا من وزن القوة الذي كان للاتحاد السوفياتي، ولكنها لا تزال بالرغم من ذلك دولة كبرى، ولها رأي في القضايا الدولية، وصاحبة نفوذ في مجلس الأمن، وهي تعيد بناء نفسها اقتصاديا بسرعة. إنها باختصار قطب عالمي، ومؤهلة لأن تكون لاعبا اساسيا في عالم متعدد الأقطاب، إلى جانب القطب الأميركي الذي يقاتل لكي يحتفظ بوحدانيته. ولا يخفى على أحد مغزى أن يقوم الأمير عبد الله بهذه الزيارة، وأن تضع زيارته الأساس لقيام علاقات وثيقة ومتنوعة بين البلدين، بحيث يمكن القول إن هذه هي الخطوة السعودية الجريئة الثالثة، في إطار رسم موقع جديد للسعودية في علاقاتها الدولية المتنوعة. ولا بد أن نلاحظ هنا طابع الزيارة ونوعيتها، فهي لم تكن مجرد زيارة لوفد رسمي يتبادل الآراء مع مضيفيه ثم يعود إلى بلده، فإضافة إلى الوفد الرسمي كان هناك وفد اقتصادي، ووفد إعلامي، ووفد ثقافي. وتم بعد المداولات السياسية الهامة، توقيع اتفاقات نفطية، كما تم توقيع اتفاقات بين الغرف التجارية والاقتصادية، وتوقيع بروتوكول علمي بين أكاديمية العلوم الروسية ومركز الملك عبد العزيز للعلوم والتكنولوجيا، وقام الوفد الثقافي بنشاط ملحوظ رعته مكتبة الملك عبد العزيز ومسؤولها النشط فيصل معمر. أما على الجانب السياسي فقد برز تفاهم البلدين على حفظ سيادة العراق وبروز قيادة عراقية شرعية تدير أموره، كما برز اهتمام البلدين بآلية إيجاد حل للموضوع الفلسطيني مع التوافق على ضرورة وجود قوات دولية تفصل بين إسرائيل والفلسطينيين، وتتيح للتفاوض بينهما أن يتم بحرية. وبكلمات قليلة، فإنها كانت زيارة ذات بعد استراتيجي، وستكون لها نتائجها على صعيد التفاعلات الدولية.
ولا نريد هنا أن نكون مبالغين في التقييم، ولذلك نجد ضرورة للتوقف عند ما أعلنه الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية في الرباط قبل توجهه إلى موسكو. قال ردا على سؤال حول أبعاد الزيارة في ظل اختلال توازن القوى الدولية «إن هدف الزيارة ليس إرساء توازنات جديدة في النظام الدولي، لأنه لا يمكن لزيارة روسيا أن تحدث تغييرا في خريطة التوازنات العالمية»، ولكنه أضاف «إن روسيا تظل دولة مهمة في العلاقات الدولية، وسيكون دورها في المستقبل مؤثرا». ولكن هذا التواضع السعودي المألوف في السياسة الخارجية، يترك الباب مفتوحا أمام الجملة التي لم يقلها الأمير حول أثر هذه الزيارة على ثوابت السياسة الخارجية السعودية، إذ هنا يحدث التطور، وهو تطور فعال، ويحتاج إلى أن تسهم فيه عواصم عربية أخرى، يتصرف بعضها بخوف، ويتصرف بعضها الآخر بارتباك، وآن لها كلها أن تخرج إلى العالم معبرة عن نفسها.
لمشاهدة مشاركات هذا القسم يجب ان تكون مشاركاتك 10 أو أعلي. عد مشاركاتك حالياً 0 . state=true