أبو فايز
26 / 03 / 2009, 52 : 05 PM
قلمي الآن بين أصابع يدي ويدي مترددة هل تكتب على جبين الصفحات أم تتوقف ، ولست ألومها فيما صارت إليه من الحيرة ، فأنا أريد أن أكتب لأعبر عما يعتلج في نفسي من خواطر وما يزدحم في مخيلتي من مشاهد ، ولا أريد أن أكتب لأن الكتابة عن معهد الذكريات الحاني ليس أمرا سهلا على الإطلاق ، لأن من يحاول أن يدلف إلى هذا العالم المثير .. عالم الذكريات الملئ باللحظات الجميلة والمواقف الرائعة لابد وأن تلم به حيرة مزعجة وقلق ممض ، فمن أين يبدأ وكيف يبدأ وأين سينتهي وكيف ستكون النهاية ؟؟
ناشد الذكريات كصياد يحمل سلاحة ويدخل محمية واسعة مترامية الأطراف ، فيها صيد كثير ومتنوع وفيها من كل لحم طري ما تلذ له العيون قبل اللأفواه ، ولكنه صعب المنال عسير المبلغ ، لا يلبث أن تقع العين عليه حتى حتى يفر مسرعا ويتوارى عن الأنظار ، ولا يزال هذا حال الصياد حتى يغشاه الظلام ويجن عليه الليل فيعود من جولته تلك بالنزر اليسير الذي لا يشبع نهما ولا يسد فاقة ولا يسكن جوعة ..
هذا هو حال ناشد الذكريات الذي يلوي أعناق السنين ليظفر بشئ من حديثها ويسمع شيئا من أقاصيصها ..
كلما وقعت عيني على تلك المدرسة الماثلة على جانب الطريق الذي يشق بلدتي الصغيرة ، راح الحنين الدافئ يقلب صفحات السنين الغابرة بين جوانح مدرستي الفتية ..
إثنتا عشرة سنة عشتها بين جنباتها كما يعيش المحب في وطنه وبين أحبابه ..
إثنتا عشرة سنة هي أنفاس الحياة المنعشة في صباحات العمر الأولى .. وأول الأفانين الندية في بستان العمر الباسم ..
كم من الذكريات الجميلة داخل تلك الفصول الصاخبة ، وبين تلك الممرات المستقيمة والملتوية بين أروقتها ، كم من المشاهد الحية النظرة التي تجول في فناء المدرسة وبين المسرح والملعب ومقر المختبرات وحديقة الأستاذ جودات ، كم شهدت ردهات تلك المدرسة من العبث الجرئ والهزل الظريف حينا ، وكم عرفت من الجد الثقيل والتكلف المضني حينا آخر عندما يستحكم الدرس وتشتد وطأته ..
أشارك الأستاذ في شرحه تارة ، وأقف أمام الإدارة للعقاب تارة أخرى .. ها أنا أتصنع الإنضباط هنا ، وأمارس الفوضى والعبث هناك .. وهاهي صافرة الجرس تنطلق معلنة نهاية الحصة الثالثة وبداية وقت الفسحة لتنطلق أولى المباريات في دوري الفصول بالمدرسة ، وهاهم أعضاء فريقنا يرتدون ملابسهم للمشاركة في الجولة الأولى من هذه المنافسات .. وهاهم طلاب المدرسة يخرجون زرافات ووحدانا ليأخذوا أماكنهم ويتحلقوا حول الملعب في فناء المدرسة الغربي .. وأصوات المشجعين تنطلق لتملأ المكان ضجيجا لا ينزعج منه ولا يستثقله أحد .. فالكل ينظر بعين الدهشة والترقب لما ستؤول إليه نتيجة الجولة بين الفريقين ..
سينصرف الطلاب بعد انتهاء الفسحة وسيظل في فناء المدرسة بعض المشاركين في العرض الرياضي لحفل المدرسة الذي سيقام بعد شهر من الآن .. وسينصرف الباقون إلى الفصول ومقرات الأنشطة المتعددة كالمسرح ومعارض الأعمال العلمية والفنية وغيرها .. وسأذهب أنا إلى المكان الذي أحبه وأشتاق إلى رؤيته والمكوث فيه ، سأذهب لأقرأ فصلا من حكايات سلفر وبعضا من صفحات كتاب قصص العرب وشيئا من الجزء الذي يحمل حرف العين من الموسوعة العربية ، وسأطيل النظر في صورة لأحمد شوقي وهو يضع رأسه على كفه الأيمن في لحظة شرود ذهني ، لأقرأ ما سطر تحتها عن ذلك الشاعر الكبير الذي ملأ الدنيا بشعره وأدبه في ذات الموسوعة العربية ..
لم أتمن طيلة حياتي القصيرة أن يرجع الزمن بي لأعيش ساعة أو لحظة من لحظات العمر المنصرم ، كتلك الساعة التي أحمل فيها جزءا من أجزاء تلك الموسوعة بشغف وتطلع وأشتم رائحة الكتب العتيقة في تلك المكتبة التي أحبها حبا جما ..
لا يعلم أحد كم شعرت بالحزن والأسف بل والحسرة عندما زرت المدرسة العام الماضي ورأيت أن موقع المكتبة قد تغير بعد أن نقلت إلى الصف المجاور وأصبح مكانها مقرا للأنشطة العلمية .. كأن قلبي قد اجتث من مكانه وأقتلع من أصوله ليودع في مكان لا نبض فيه ولا حياه ..
دعوكم مما جرى لي وأخبروني هل يجهل أحد منكم تلك القصة السخيفة الموسومة بـ " العجينة الهاربة " .. كم هي غبية تلك القصة وساذجة ، وكم كانت أيامها جميلة ، ويالها من مكانة رفيعة تحتلها هذه القصة في سجل ذكرياتي .. وكم هو عزيز على نفسي هذا الفصل الذي أتحدث فيه عن مكتبة المدرسة والتي ودعت فيها أجمل ذكرياتي حتى الآن ..
ولكم هو مزعج أن أتحدث عن هذا الفصل بإقتضاب شديد وهي التي تمنحني السعادة كلما لاحت بها خاطرة إلى نفسي ، ولكن هذا شأن المقالات تنزع دوما إلى الإختصار ..
كم من الساعات قضينا بين تلك الفصول ومع أولئك المعلمين الأفاضل ، وكم من المواقف الطريفة والمحزنة والمثيرة والكئيبة عشناها وتجرعنا حلوها ومرها .. وكم من معلم تمنينا أن تنشق الأرض وتبتلعه أو تأتي عليه حركة النقل البطيئة لتريحنا من مطلعه الدميم وخلقه الغليظ .. وكم من معلم نادمناه نعم المنادمة وعرفناه معلما وأخا ومثالا للصدق والإخلاص والأمانة والنصح ..
ما بين انطلاق صافرة الطابور الصباحي وانطلاق صافرة نهاية الدوام الرسمي ، مواقف متباينة ومشاهد متنوعة تنوع الأزهار في بستان ندي يهتز للناظر طربا ..
تلك الطوابير التي تتشكل في بداية العام الدراسي ليأخذ الطلاب أماكنهم في الفصول الجديدة ، هي ذات الطوابير التي تقف في نهاية العام لينادى عليها بمكبر الصوت ويدعى كل واحد بإسمه ليأخذ موقعه في لجان قاعة الإمتحانات النهائية .. ولا تسأل عن تلك النشوة العارمة التي يعيشها الطالب بعد فترة من فترات الإمتحان حينما يلقى أصحابه خارج أو داخل أسوار المدرسة ..
الحديث عن تلك المشاهد حديث ذو شجون لا يسع المقام لتتبعه ولا تسعف الذاكرة لإستحضاره .. فما كتبته أعلاه إنما اختلسته كما يختلس النعاس من عين المجهد ، ولعله يتاح لنا أن نكتب عن تلك الذكريات بإسهاب متى ما سمحت لنا الظروف بذلك .
ناشد الذكريات كصياد يحمل سلاحة ويدخل محمية واسعة مترامية الأطراف ، فيها صيد كثير ومتنوع وفيها من كل لحم طري ما تلذ له العيون قبل اللأفواه ، ولكنه صعب المنال عسير المبلغ ، لا يلبث أن تقع العين عليه حتى حتى يفر مسرعا ويتوارى عن الأنظار ، ولا يزال هذا حال الصياد حتى يغشاه الظلام ويجن عليه الليل فيعود من جولته تلك بالنزر اليسير الذي لا يشبع نهما ولا يسد فاقة ولا يسكن جوعة ..
هذا هو حال ناشد الذكريات الذي يلوي أعناق السنين ليظفر بشئ من حديثها ويسمع شيئا من أقاصيصها ..
كلما وقعت عيني على تلك المدرسة الماثلة على جانب الطريق الذي يشق بلدتي الصغيرة ، راح الحنين الدافئ يقلب صفحات السنين الغابرة بين جوانح مدرستي الفتية ..
إثنتا عشرة سنة عشتها بين جنباتها كما يعيش المحب في وطنه وبين أحبابه ..
إثنتا عشرة سنة هي أنفاس الحياة المنعشة في صباحات العمر الأولى .. وأول الأفانين الندية في بستان العمر الباسم ..
كم من الذكريات الجميلة داخل تلك الفصول الصاخبة ، وبين تلك الممرات المستقيمة والملتوية بين أروقتها ، كم من المشاهد الحية النظرة التي تجول في فناء المدرسة وبين المسرح والملعب ومقر المختبرات وحديقة الأستاذ جودات ، كم شهدت ردهات تلك المدرسة من العبث الجرئ والهزل الظريف حينا ، وكم عرفت من الجد الثقيل والتكلف المضني حينا آخر عندما يستحكم الدرس وتشتد وطأته ..
أشارك الأستاذ في شرحه تارة ، وأقف أمام الإدارة للعقاب تارة أخرى .. ها أنا أتصنع الإنضباط هنا ، وأمارس الفوضى والعبث هناك .. وهاهي صافرة الجرس تنطلق معلنة نهاية الحصة الثالثة وبداية وقت الفسحة لتنطلق أولى المباريات في دوري الفصول بالمدرسة ، وهاهم أعضاء فريقنا يرتدون ملابسهم للمشاركة في الجولة الأولى من هذه المنافسات .. وهاهم طلاب المدرسة يخرجون زرافات ووحدانا ليأخذوا أماكنهم ويتحلقوا حول الملعب في فناء المدرسة الغربي .. وأصوات المشجعين تنطلق لتملأ المكان ضجيجا لا ينزعج منه ولا يستثقله أحد .. فالكل ينظر بعين الدهشة والترقب لما ستؤول إليه نتيجة الجولة بين الفريقين ..
سينصرف الطلاب بعد انتهاء الفسحة وسيظل في فناء المدرسة بعض المشاركين في العرض الرياضي لحفل المدرسة الذي سيقام بعد شهر من الآن .. وسينصرف الباقون إلى الفصول ومقرات الأنشطة المتعددة كالمسرح ومعارض الأعمال العلمية والفنية وغيرها .. وسأذهب أنا إلى المكان الذي أحبه وأشتاق إلى رؤيته والمكوث فيه ، سأذهب لأقرأ فصلا من حكايات سلفر وبعضا من صفحات كتاب قصص العرب وشيئا من الجزء الذي يحمل حرف العين من الموسوعة العربية ، وسأطيل النظر في صورة لأحمد شوقي وهو يضع رأسه على كفه الأيمن في لحظة شرود ذهني ، لأقرأ ما سطر تحتها عن ذلك الشاعر الكبير الذي ملأ الدنيا بشعره وأدبه في ذات الموسوعة العربية ..
لم أتمن طيلة حياتي القصيرة أن يرجع الزمن بي لأعيش ساعة أو لحظة من لحظات العمر المنصرم ، كتلك الساعة التي أحمل فيها جزءا من أجزاء تلك الموسوعة بشغف وتطلع وأشتم رائحة الكتب العتيقة في تلك المكتبة التي أحبها حبا جما ..
لا يعلم أحد كم شعرت بالحزن والأسف بل والحسرة عندما زرت المدرسة العام الماضي ورأيت أن موقع المكتبة قد تغير بعد أن نقلت إلى الصف المجاور وأصبح مكانها مقرا للأنشطة العلمية .. كأن قلبي قد اجتث من مكانه وأقتلع من أصوله ليودع في مكان لا نبض فيه ولا حياه ..
دعوكم مما جرى لي وأخبروني هل يجهل أحد منكم تلك القصة السخيفة الموسومة بـ " العجينة الهاربة " .. كم هي غبية تلك القصة وساذجة ، وكم كانت أيامها جميلة ، ويالها من مكانة رفيعة تحتلها هذه القصة في سجل ذكرياتي .. وكم هو عزيز على نفسي هذا الفصل الذي أتحدث فيه عن مكتبة المدرسة والتي ودعت فيها أجمل ذكرياتي حتى الآن ..
ولكم هو مزعج أن أتحدث عن هذا الفصل بإقتضاب شديد وهي التي تمنحني السعادة كلما لاحت بها خاطرة إلى نفسي ، ولكن هذا شأن المقالات تنزع دوما إلى الإختصار ..
كم من الساعات قضينا بين تلك الفصول ومع أولئك المعلمين الأفاضل ، وكم من المواقف الطريفة والمحزنة والمثيرة والكئيبة عشناها وتجرعنا حلوها ومرها .. وكم من معلم تمنينا أن تنشق الأرض وتبتلعه أو تأتي عليه حركة النقل البطيئة لتريحنا من مطلعه الدميم وخلقه الغليظ .. وكم من معلم نادمناه نعم المنادمة وعرفناه معلما وأخا ومثالا للصدق والإخلاص والأمانة والنصح ..
ما بين انطلاق صافرة الطابور الصباحي وانطلاق صافرة نهاية الدوام الرسمي ، مواقف متباينة ومشاهد متنوعة تنوع الأزهار في بستان ندي يهتز للناظر طربا ..
تلك الطوابير التي تتشكل في بداية العام الدراسي ليأخذ الطلاب أماكنهم في الفصول الجديدة ، هي ذات الطوابير التي تقف في نهاية العام لينادى عليها بمكبر الصوت ويدعى كل واحد بإسمه ليأخذ موقعه في لجان قاعة الإمتحانات النهائية .. ولا تسأل عن تلك النشوة العارمة التي يعيشها الطالب بعد فترة من فترات الإمتحان حينما يلقى أصحابه خارج أو داخل أسوار المدرسة ..
الحديث عن تلك المشاهد حديث ذو شجون لا يسع المقام لتتبعه ولا تسعف الذاكرة لإستحضاره .. فما كتبته أعلاه إنما اختلسته كما يختلس النعاس من عين المجهد ، ولعله يتاح لنا أن نكتب عن تلك الذكريات بإسهاب متى ما سمحت لنا الظروف بذلك .