القلم المستنير
06 / 01 / 2009, 42 : 12 AM
المكان: مدرستنا الابتدائية، في قرية من قرى جنوب المملكه
الزمان: أيام كنا أطفالاً في الصفوف الابتدائية
قريتي:
بين التلال الوعرة، المكسوة بأشجار السمر، والأودية الواسعة... قامت قريتي الصغيرة الوادعة، مكونة من بيوت الحجارة والطين، وبعض الخيام وبيوت الشعر، وعرائش أغصان الشجر التي كان يسكنها بعض أهل القرية صيفاً يستروحون إلى ظلها عند ظمأ الهواجر، واشتداد القيظ.
في تلك القرية التي نسي التاريخ أو كاد ينسى مدخلها وموضعها، تذكرت الحكومة بعد إلحاح الأهالي أن تستأجر بيتاً مكوناً من غرفة واحدة كبيرة ليكون مدرسة يتعلم فيها أطفال القرية الذين لم يكونوا يجاوزون أربعين طفلاً، في أحسن أحوالهم، ..
كان هذا البيت هو المدرسة بكل ما فيها، هو غرفة التدريس للصفوف الابتدائية الستة، وغرفة الإدارة، وغرفة المعلم، ومستودع المعدات والكتب، وكل شيء.
وكان في بعض الأحيان: هو المنزل الذي يسكنه الأستاذ القادم من مسافة عشرين أو ثلاثين كيلو متراً، إذ لم يكن قادراً على الذهاب والإياب في كل يوم، ولا بد له من منزل ينام فيه، وليس في القرية فنادق، ولا شقق مفروشة.
الأطفال يغدون إلى المدرسة في الصباح، حاملين كتبهم، ودفاترهم في أيديهم من غير حقائب لها، ..
وذات يوم عاصف: حيث اشتد الزمهرير، وعصفت الرياح الهوج، رياح الشماليه الجافة التي اعتدنا أن نواجه برودتها في أيام أربعينية الشتاء، كان المطلوب من كل تلميذ أن يحمل إلى المدرسة قطعة جزلة من الحطب لتكون وقوداً يصطلي الطلبة وأستاذهم بإيقاده.
أيام الشتاء - رغم برودتها وشدتها - لها طعم خاص، وأهم ما فيها أننا كنا نذهب إلى المدرسة لا لنقرأ بل لنرى كيف يشعل الأستاذ النار، ويجمعنا حولها ثم يبدأ يقص علينا ما في جعبته من حكايات وأساطير.
كانت تلك - بنظره- أسهل وأمتع طريقة، لكفنا عن الفوضى والصخب، وضبط أمورنا ريثما ينتهي دوام الشتاء القصير.
جئت في ذلك اليوم أحمل حقيبتي في يد، وقطعة الحطب في الأخرى، وكان البرد شديداً، ويبدو أنني لم أستعد له الاستعداد الكافي.
ومع الطريق المتعرجة البعيدة إلى المدرسة بدأت أشعر بشدة البرد، والريح تصفق في وجهي، رغم أنني أغطي رأسي وأذني، لكن اليدين لا أستطيع إدخالهما في جيوبي، أو إخفاءهما بين ثيابي، فكيف أحمل الكتب والحطب إذاً؟
وسرت بخطوات مسرعة، وكلما حاولت الإسراع اشتد علي البرد، فالريح تهب في وجهي كتيار جارف شديد البرودة، ويداي تتشبثان بما فيهما، والدموع تطفر من عيني رغم أنفي.. ريحٌ وبرد وطريق طويل..
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته = ولكنه سهم وثانٍ وثالثُ
وأخيراً وصلت
وصلت إلى المدرسة متأخراً
كانت النار مشتعلة
والطلبة حول الأستاذ في لهفة وشوق لسماع حديثه وقصصه.
وقبل أن أدخل الصف ألقيت الحطبة
وأجهشت بالبكاء
كان منظراً مؤثراً محزناً
يداي متجمدتان من البرد
وتلقاني الأستاذ، وأخذ يفرك يدي بكفيه الدافئتين، ويهدئ من روعي.
ومرت دقائق، عدت بعد ذلك إلى دفئي ونشاطي، وأخذت أستمع بإنصات إلى الحكايات الجميلة التي كنا نحمد أيام الشتاء لأجلها.
نعم، لقد كنت تلميذاً صغيراً ذات مرة، وكنت أبكي من البرد، ... وهاأنذا اليوم ما زلت تلميذاً في مدرسة الحياة.
أحن إلى قريتي التي كبرت واتسعت وزالت منها الدروب الوعره والحفر المليئة بمياه المطر، .. أحن إلى قريتي التي كنت أعرف كل صغير وكبير فيها، وأعرف كل شجرة من أشجارها، وصخرة من صخورها.
الزمان: أيام كنا أطفالاً في الصفوف الابتدائية
قريتي:
بين التلال الوعرة، المكسوة بأشجار السمر، والأودية الواسعة... قامت قريتي الصغيرة الوادعة، مكونة من بيوت الحجارة والطين، وبعض الخيام وبيوت الشعر، وعرائش أغصان الشجر التي كان يسكنها بعض أهل القرية صيفاً يستروحون إلى ظلها عند ظمأ الهواجر، واشتداد القيظ.
في تلك القرية التي نسي التاريخ أو كاد ينسى مدخلها وموضعها، تذكرت الحكومة بعد إلحاح الأهالي أن تستأجر بيتاً مكوناً من غرفة واحدة كبيرة ليكون مدرسة يتعلم فيها أطفال القرية الذين لم يكونوا يجاوزون أربعين طفلاً، في أحسن أحوالهم، ..
كان هذا البيت هو المدرسة بكل ما فيها، هو غرفة التدريس للصفوف الابتدائية الستة، وغرفة الإدارة، وغرفة المعلم، ومستودع المعدات والكتب، وكل شيء.
وكان في بعض الأحيان: هو المنزل الذي يسكنه الأستاذ القادم من مسافة عشرين أو ثلاثين كيلو متراً، إذ لم يكن قادراً على الذهاب والإياب في كل يوم، ولا بد له من منزل ينام فيه، وليس في القرية فنادق، ولا شقق مفروشة.
الأطفال يغدون إلى المدرسة في الصباح، حاملين كتبهم، ودفاترهم في أيديهم من غير حقائب لها، ..
وذات يوم عاصف: حيث اشتد الزمهرير، وعصفت الرياح الهوج، رياح الشماليه الجافة التي اعتدنا أن نواجه برودتها في أيام أربعينية الشتاء، كان المطلوب من كل تلميذ أن يحمل إلى المدرسة قطعة جزلة من الحطب لتكون وقوداً يصطلي الطلبة وأستاذهم بإيقاده.
أيام الشتاء - رغم برودتها وشدتها - لها طعم خاص، وأهم ما فيها أننا كنا نذهب إلى المدرسة لا لنقرأ بل لنرى كيف يشعل الأستاذ النار، ويجمعنا حولها ثم يبدأ يقص علينا ما في جعبته من حكايات وأساطير.
كانت تلك - بنظره- أسهل وأمتع طريقة، لكفنا عن الفوضى والصخب، وضبط أمورنا ريثما ينتهي دوام الشتاء القصير.
جئت في ذلك اليوم أحمل حقيبتي في يد، وقطعة الحطب في الأخرى، وكان البرد شديداً، ويبدو أنني لم أستعد له الاستعداد الكافي.
ومع الطريق المتعرجة البعيدة إلى المدرسة بدأت أشعر بشدة البرد، والريح تصفق في وجهي، رغم أنني أغطي رأسي وأذني، لكن اليدين لا أستطيع إدخالهما في جيوبي، أو إخفاءهما بين ثيابي، فكيف أحمل الكتب والحطب إذاً؟
وسرت بخطوات مسرعة، وكلما حاولت الإسراع اشتد علي البرد، فالريح تهب في وجهي كتيار جارف شديد البرودة، ويداي تتشبثان بما فيهما، والدموع تطفر من عيني رغم أنفي.. ريحٌ وبرد وطريق طويل..
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته = ولكنه سهم وثانٍ وثالثُ
وأخيراً وصلت
وصلت إلى المدرسة متأخراً
كانت النار مشتعلة
والطلبة حول الأستاذ في لهفة وشوق لسماع حديثه وقصصه.
وقبل أن أدخل الصف ألقيت الحطبة
وأجهشت بالبكاء
كان منظراً مؤثراً محزناً
يداي متجمدتان من البرد
وتلقاني الأستاذ، وأخذ يفرك يدي بكفيه الدافئتين، ويهدئ من روعي.
ومرت دقائق، عدت بعد ذلك إلى دفئي ونشاطي، وأخذت أستمع بإنصات إلى الحكايات الجميلة التي كنا نحمد أيام الشتاء لأجلها.
نعم، لقد كنت تلميذاً صغيراً ذات مرة، وكنت أبكي من البرد، ... وهاأنذا اليوم ما زلت تلميذاً في مدرسة الحياة.
أحن إلى قريتي التي كبرت واتسعت وزالت منها الدروب الوعره والحفر المليئة بمياه المطر، .. أحن إلى قريتي التي كنت أعرف كل صغير وكبير فيها، وأعرف كل شجرة من أشجارها، وصخرة من صخورها.