أبو ياسر
28 / 06 / 2008, 19 : 11 PM
لمشاهدة مشاركات هذا القسم يجب ان تكون مشاركاتك 10 أو أعلي. عد مشاركاتك حالياً 0 .
كان في فمي ضرس مسوس، وكان يحتال على تعذيبي فيسكن متربصاً ساعات النهار و يستيقظ مضطرباً في هدوء الليل عندما يكون أطباء الأسنان نائمين و الصيديلة مقفلة.
ففي يوم وقد نفد صبري ذهبت إلى أحد الأطباء و قلت له: ألا فانزعه ضرساً خبيثاً يحرمني لذة الرقاد و يحول سكينة ليالي إلى الأنين و الضجيج .
فهز الطبيب رأسه قائلاً: من الغباوة أن نستأصل الضرس إذا كان بإمكاننا تطبيبه .
ثم أخذ يحفر جوانب الضرس و ينظف زواياه و يتفنن بتطهيره من العلة. ولما وثق بإنه صار خالياً من السوس حشا ثقوبه بالذهب الخالص ثم قال مفاخراً: لقد أصبح ضرسك العليل أشد و أصلب من أضراسك الصحيحة. فصدقت كلامه و ملأت حفنته بالدنانير و ذهبت فرحاً.
ولكن لم يمر الأسبوع حتى عاد الضرس المشؤوم إلى تعذيبي و إبدال أنغام روحي بحشرجة الاحتضار و عويل الهاوية.
فذهبت إلى طبيب آخر و قلت له بصوت يعانقه الحزم: ألا فاخلعه ضرساً مذََهباً شريراً ، و لا تعترض (( فمن يأكل العصي لا كمن يعدها )).
فنزع الطبيب الضرس و كانت ساعة هائلة بأوجاعها و لكنها كانت ساعة مباركة.
وقد قال لي الطبيب بعد أن استأصل الضرس و تفحصه جيداً: لقد فعلت حسناً، فالعلة قد تحكمت بأصول ضرسك هذا حتى لم يبق رجاء بشفائه.
وقد نمت مرتاحاً في تلك الليلة، و لم أزل في راحة، و الحمد للخلع و الاستئصال.
في فم الجامعة البشرية أضراس مسوسة وقد نخرتها العلة حتى بلغت عظم الفك، غير أن الجامعة البشرية لا تستأصلها لترتاح من أوجاعها بل تكتفي بتمريضها و تنظيف خارجها وملء ثقوبها بالذهب و اللماع.
وما أكثر الأطباء الذين يداوون أضراس الإنسانية بالطلاء الجميل و المواد البراقة. و ما أكثر المرضى الذين يستسلمون إلى مشيئة أولئك الأطباء المصلحين فيتوجعون و يسقمون ثم يموتون بعلتهم مخدوعين .
غير أن الأمة التي تعتل ثم تموت لا تُبعث ثانية لتظهر للملأ أسباب الأمراض المعنوية وماهية الأدواء الأجتماعية التي تؤول بالأمم إلى لانقراض و العدم .
وفي فم الأمة العربية أضراس بالية سوداء قذرة ذات رائحة كريهة وقد حاول أطباؤنا تطهيرها و حشوها بالميناء وإلباس خارجها رقوق الذهب و لكنها لا تشفى و لن تشفى بغير الاستئصال. و الأمة التي تكون أضراسها معتلة تكون معدتها ضعيفة، و كم أمة ذهبت شهيدة عسر الهضم.
ومن شاء أن يرى أضراس العرب المسوسة فليذهب إلى المدرسة حيث يستظهر رجال الغد ما قاله الأخفش نقلاً عن سيبويه و سيبويه عن سائق الأضغان.
أو فليذهب إلى المحكمة حيث يتلاعب الذكاء البهلواني بالقضايا الشرعية مثلما تلعب القط بصيدتها.
أو فليذهب إلى منازل المثرين حيث التصنع و الكذب و الرياء.
أو فليذهب إلى بيوت الفقراء حيث الخوف و الجبانة و الجهالة .
وبعد ذلك فليذهب إلى أطباء الأسنان ذوي الأصابع الناعمة والآلات الدقيقة و المساحيق المخدرة يصرفون الأيام بملء ثقوب الأضراس المسوسة وتطهير زواياها المعتلة، وإذا أراد محادثتهم والانتفاع بمواهبهم فهم هم النبهاء الفصحاء الذين يؤلفون الجمعيات ويعقدون المؤتمرات و يخطبون في النوادي و الساحات، ففي حديثهم نغمة أسمى من أناشيد حجر الرحى و أنبل من أغاني الضفادع في ليالي تموز.
ولكن إذا قال لهم إن الأمة العربية تقضم قوت الحياة بأضراس مسوسة و إن كل لقمة تلوكها تمتزج بلعاب مسمم وإنه قد نتج عن ذلك مرض في أمعائها، إذا قال هذا يجيبونه بقولهم: نعم نحن الآن منصرفون إلى درس أحدث المساحيق و أجد المخدرات.
و إذا قال لهم : ما قولكم بالاستئصال؟ يضحكون منه لأنه لم يدرس طب الأسنان الشريف.
وإذا أعاد السؤال ثانية يبتعدون عنه متضجرين قائلين في نفوسهم: ما أكثرالخياليين في هذا العالم و ما أوهى أحلامهم ..
نقلاُ: من العواصف للمؤلف الفنان/ جبران خليل جبران
# نقلته بنصه و أبدلت كل لفظة ( سورية ) بلفظة ( عربية ) وهي هنا في ثلاث مواضع فقط ..
تعليق:
وجدت أن الكاتب أحسن توظيف معاناته مع سنه بمعانة الشعب العربي مع حكومته السياسية و الإقتصادية، إذ أن فم الأم العربية كما قال الكاتب مليء بعشرات الأسنان المسوسة و في إغفالها كما يحصل استفشاء السوس إلى ان يصل إلى يوم لا تنفع فيه الندامة و لا يبرئه ملقط طبيب ، هذه السوسة توجد في دولنا العربية بوزاراتها و مجالسها الشورية و البرلمانية و كذا في تجارها وشتى ميادينها الحياتية ، و يوجد في المقابل من يلمعها و يعمل على إبقائها من حيث يشعر أو لا يشعر، فيا ليت شعري أين أطباء الأمة الأفذاذ عن هذا السوس الفتاك !!! و لما كانت الهوة سحيقة بين المرضى و أطباء الأسنان!؟
كان في فمي ضرس مسوس، وكان يحتال على تعذيبي فيسكن متربصاً ساعات النهار و يستيقظ مضطرباً في هدوء الليل عندما يكون أطباء الأسنان نائمين و الصيديلة مقفلة.
ففي يوم وقد نفد صبري ذهبت إلى أحد الأطباء و قلت له: ألا فانزعه ضرساً خبيثاً يحرمني لذة الرقاد و يحول سكينة ليالي إلى الأنين و الضجيج .
فهز الطبيب رأسه قائلاً: من الغباوة أن نستأصل الضرس إذا كان بإمكاننا تطبيبه .
ثم أخذ يحفر جوانب الضرس و ينظف زواياه و يتفنن بتطهيره من العلة. ولما وثق بإنه صار خالياً من السوس حشا ثقوبه بالذهب الخالص ثم قال مفاخراً: لقد أصبح ضرسك العليل أشد و أصلب من أضراسك الصحيحة. فصدقت كلامه و ملأت حفنته بالدنانير و ذهبت فرحاً.
ولكن لم يمر الأسبوع حتى عاد الضرس المشؤوم إلى تعذيبي و إبدال أنغام روحي بحشرجة الاحتضار و عويل الهاوية.
فذهبت إلى طبيب آخر و قلت له بصوت يعانقه الحزم: ألا فاخلعه ضرساً مذََهباً شريراً ، و لا تعترض (( فمن يأكل العصي لا كمن يعدها )).
فنزع الطبيب الضرس و كانت ساعة هائلة بأوجاعها و لكنها كانت ساعة مباركة.
وقد قال لي الطبيب بعد أن استأصل الضرس و تفحصه جيداً: لقد فعلت حسناً، فالعلة قد تحكمت بأصول ضرسك هذا حتى لم يبق رجاء بشفائه.
وقد نمت مرتاحاً في تلك الليلة، و لم أزل في راحة، و الحمد للخلع و الاستئصال.
في فم الجامعة البشرية أضراس مسوسة وقد نخرتها العلة حتى بلغت عظم الفك، غير أن الجامعة البشرية لا تستأصلها لترتاح من أوجاعها بل تكتفي بتمريضها و تنظيف خارجها وملء ثقوبها بالذهب و اللماع.
وما أكثر الأطباء الذين يداوون أضراس الإنسانية بالطلاء الجميل و المواد البراقة. و ما أكثر المرضى الذين يستسلمون إلى مشيئة أولئك الأطباء المصلحين فيتوجعون و يسقمون ثم يموتون بعلتهم مخدوعين .
غير أن الأمة التي تعتل ثم تموت لا تُبعث ثانية لتظهر للملأ أسباب الأمراض المعنوية وماهية الأدواء الأجتماعية التي تؤول بالأمم إلى لانقراض و العدم .
وفي فم الأمة العربية أضراس بالية سوداء قذرة ذات رائحة كريهة وقد حاول أطباؤنا تطهيرها و حشوها بالميناء وإلباس خارجها رقوق الذهب و لكنها لا تشفى و لن تشفى بغير الاستئصال. و الأمة التي تكون أضراسها معتلة تكون معدتها ضعيفة، و كم أمة ذهبت شهيدة عسر الهضم.
ومن شاء أن يرى أضراس العرب المسوسة فليذهب إلى المدرسة حيث يستظهر رجال الغد ما قاله الأخفش نقلاً عن سيبويه و سيبويه عن سائق الأضغان.
أو فليذهب إلى المحكمة حيث يتلاعب الذكاء البهلواني بالقضايا الشرعية مثلما تلعب القط بصيدتها.
أو فليذهب إلى منازل المثرين حيث التصنع و الكذب و الرياء.
أو فليذهب إلى بيوت الفقراء حيث الخوف و الجبانة و الجهالة .
وبعد ذلك فليذهب إلى أطباء الأسنان ذوي الأصابع الناعمة والآلات الدقيقة و المساحيق المخدرة يصرفون الأيام بملء ثقوب الأضراس المسوسة وتطهير زواياها المعتلة، وإذا أراد محادثتهم والانتفاع بمواهبهم فهم هم النبهاء الفصحاء الذين يؤلفون الجمعيات ويعقدون المؤتمرات و يخطبون في النوادي و الساحات، ففي حديثهم نغمة أسمى من أناشيد حجر الرحى و أنبل من أغاني الضفادع في ليالي تموز.
ولكن إذا قال لهم إن الأمة العربية تقضم قوت الحياة بأضراس مسوسة و إن كل لقمة تلوكها تمتزج بلعاب مسمم وإنه قد نتج عن ذلك مرض في أمعائها، إذا قال هذا يجيبونه بقولهم: نعم نحن الآن منصرفون إلى درس أحدث المساحيق و أجد المخدرات.
و إذا قال لهم : ما قولكم بالاستئصال؟ يضحكون منه لأنه لم يدرس طب الأسنان الشريف.
وإذا أعاد السؤال ثانية يبتعدون عنه متضجرين قائلين في نفوسهم: ما أكثرالخياليين في هذا العالم و ما أوهى أحلامهم ..
نقلاُ: من العواصف للمؤلف الفنان/ جبران خليل جبران
# نقلته بنصه و أبدلت كل لفظة ( سورية ) بلفظة ( عربية ) وهي هنا في ثلاث مواضع فقط ..
تعليق:
وجدت أن الكاتب أحسن توظيف معاناته مع سنه بمعانة الشعب العربي مع حكومته السياسية و الإقتصادية، إذ أن فم الأم العربية كما قال الكاتب مليء بعشرات الأسنان المسوسة و في إغفالها كما يحصل استفشاء السوس إلى ان يصل إلى يوم لا تنفع فيه الندامة و لا يبرئه ملقط طبيب ، هذه السوسة توجد في دولنا العربية بوزاراتها و مجالسها الشورية و البرلمانية و كذا في تجارها وشتى ميادينها الحياتية ، و يوجد في المقابل من يلمعها و يعمل على إبقائها من حيث يشعر أو لا يشعر، فيا ليت شعري أين أطباء الأمة الأفذاذ عن هذا السوس الفتاك !!! و لما كانت الهوة سحيقة بين المرضى و أطباء الأسنان!؟