راعي وناسة
03 / 03 / 2006, 59 : 12 AM
سأروي لكم قصتي.....!!
لم يكن عام 1989م يوماً عادياً، ولم تكن تلك السنة من السنوات العجاف لعزيز مصر الأخير فقد كانت سنة وئام..
أعوام مضت والذاكرة تقتنص المشاهد من هنا وهناك، بعضها محفور على جدار الزنازين، والآخر مدفون بالقلب ينبشه الفقراء والمعوزون كل ليلة.. وأنا أسمع توجعاتهم، فلنا ولهم الله..
أأحدثكم عن (17) عاماً مضت وشمس القاهرة تنشر في الشوارع دفئها وحَمَامَات الأزهر تعانق المآذن وتجوب فضاء المدينة الملوث..؟!
أأحدثكم عن (17) عاماً مضت وأنا أجوب بسيارتي التاكسي شوارع القاهرة أبحث عن كسرة الخبز الفاسدة.. وغذاءٌ لأطفالٍ فاغري أفواههم جوعى ينتظرون كاسيهم كما انتظروا عائلهم الأول (الحطيئة)... أين أنا وأين ذاك...؟!!
آه نسيت لقد قلت: إنها سنة سمينة لم تكن من العجاف.. فما لي ولثمن كسرة الخبز الضائعة.. هذه هي أيامي..
أما لحظتها فكنت قادماً من مدينة نصر من شارع عباس العقاد، وهو معروف بكثرة الغادين والرائحين وأزهار العشاق تملأ الأزقة والفضاءات.. وأنوار الحي شاهدة على حب بريء وفاضح.. تركت هذا الشارع بصخبه وهمومه.. فلم أجد فيه من يدفع لي ثمن كسرة الخبز الضائعة...!!
اتجهت نحو طريق النصر بسيارتي التاكسي.. هذا الشارع يُعدّ من أعرض شوارع القاهرة حيث تجد هناك نصب الجندي المجهول، وتجد أيضاً المنصة التي شهدت لحظات قاسية أيام العرض العسكري والذي اغتيل فيه السادات عام 1981.. اعتدت دائماً أن ألقي التحية بقلبي على هذين الصنمين الواقفين على المنصة حتى يُخيّل إليك أنهما قُدّا من صخر فلم أشاهدهما في يوم من الأيام يتحركان أو يلتفتان.. يبقيان واقفين على منتصف المنصة ووجهاهما نحو قاعة المؤتمرات الضخمة.. ألقي بقلبي التحية وأنا سائر وأهمهم بحديث لا تسمعه النفس.. يا لعذابات الفقراء..!!
أخذت (كوبري 6 أكتوبر) هذا الكوبري يريك القاهرة من علٍ .. ارتفاعه عالٍ جداً، وهو طويل يبدأ تقريباً من مدينة نصر وينتهي في الدقي في الجيزة أو العكس...!
لم يكن يصدح في أذني غير ضجيج السيارات والقاطرات..ونداءات أصحاب البسط المتجولة .. وصلت ميدان التحرير وهو قلب القاهرة النابض، تركت المتحف بجانبي وتوجهت نحو (كوبري قصر النيل).. وأنا أبحث عن كسرة الخبز الضائعة.. وهناك وقبل الكوبري ألقيت التحية نحو المبنى الضخم القابع في هذه الزحمة، تحية الخوف والولاء والبراء إنه مبنى جامعة الدول العربية... والذي اعتدت دائماً أن أرى تلك السيارات الفخمة تخرج من بوابته لتدوس أجسادنا، ثم تعلق (البوري) ليكملها بألف شتيمة ولعنة، وكأنهم من كوكب السماء..
التفت كالعادة نحو البوابة الضخمة لأجدد الولاء بلساني.. ورأيت رجلاً يحمل دبلوماسية تدل على الرفاهية.. وهو يشير بيده نحوي أن توقف، أدرت مقود سيارتي نحوه ونحن في مصر لا ننظر إلا لمن هم أمامنا، يعني المرآة لا تُستخدم، وعلى من خلفنا أن يتصرف بطريقته.. وقفت أمام هذا الرجل متوسط القامة، وكنت قد تجاوزته في مسافة تقدر بسبعة أمتار فأشرت إليه أن تعال.. فقال لي: لا.. أنت تعال.. تخاصمنا وفي الأخير رضخت لطلبه.. لأنني أبحث عن كسرة الخبز الضائعة.. قلت له: "وين يا باشا"؟ قال: أريد (مقيل الماريوت) قلت له: تفضل. قال: بكم؟ قلت له: بـعشرة جنيه. قال: "ليش تحسبني مجنون وإلا مجنون ما بلا (9) ولا تشم ريال واحد فوقها".. لا.. هذا كثير والمسافة قريبة قلت: له و (10) جنيه قليلة. قال: لا.. اعتدت أن آتي إلى هذا المكان بـ (9) جنيه. قلت له: لا فرق اركب..
ركب معي وكنت أشم رائحة الشيح منه.. تبادلنا أطراف الحديث وحدثته عن القاهرة.. وسألته: "من وين الأخ"؟ قال: من اليمن، وارتسمت على شفتي ابتسامة تجرني إلى عبق ذلك المكان، وقلت له: حدثني عن صنعاء وعن اليمن.. قال لي: "إيش اسمك".. قلتُ له: أبو زياد..
- "فين تعمل يا بو زياد"..
- قلتُ: سواق تاكسي..
- "أيوه.. كم سنة صار لك تعمل في التاكسي؟"..
- عشر سنوات...
- إذاً أنت تعرف القاهرة كويس..
- بالتأكيد..
وهنا جاء دوري بالأسئلة..
قلت له: ما الذي جاء بك إلى مبنى جامعة الدول..؟
قال لي (وهو ينظر من نافذة التاكسي إلى الشوارع): "مالك.. إيش دخلك..؟"
- لا شيء مجرد سؤال..
قال: عندنا مؤتمر واجتماع.. وقبل قليل انتهينا..
قلت له: ما اسمك..؟
قال لي (وهو يضحك في وجهي): مالك ما تعرفني..؟!
قلت له: لا..
قال: "وهذي الفوضى اللي باسويها بالمؤتمرات والصياح والصراخ عشان الناس ينتبهوا لي والآن تقول لي إنك ماتعرفني ...".
ثم ضرب كفاً بكف وقال لي: يا ولدي أنا الرئيس علي عبد الله صالح..
- "إيش.. مين.." أعد..
- أقول لك: أنا الرئيس علي عبد الله صالح..
لا شعورياً حرفت السيارة نحو اليمين وضغطت على (البريك). التفتُّ نحوه، فلم أصدق ما أرى.. "معقول الرئيس يركب معي"..
قال: "أيوه..".
وقفتُ لحظات فاغراً فاي!! نظر إليّ وقال: "مالك إش جرى لك كنك مخزن بقات سوطي مبودر وطاح من لقفه" .. تشتي تخزن قات.. لم ينتظر إجابتي ففتح الدبلوماسية التي معه.. وأعطاني قات، لكني رفضته، فخزنه هو "مستدركاً كلامه: ياخي أنا لولا هذا القات، والله ما كنت سمعت لي نفس واحد في المؤتمرات حقّنا".. أدرت محرك السيارة بعدما ضاعت كل الأسئلة.. وهي عادة نواجهها حينما نلتقي الكبار يضيع الكلام.. توجهنا نحو الماريوت.. وقبل أن ينـزل قال لي: "يا أبا زياد، أشتيك في الليل في الساعة الحادية عشرة تمرني..".
قلت له: حباً وكرامة..
ودعته ونسيت أن آخذ قيمة الأجرة.. ونسيت كل شيء والقيمة في هذا الموقف لا تعنيني... ركنت السيارة في أقرب موقف، وجلست أفكر في تلك اللحظات وفي هذا الموقف الغريب.. لم أخرج بنتيجة غير الدهشة.
2
أخرجت سيارتي البيجو البوكس من مغسلة السيارات الآلية في شارع الهرم.. وعطرتها.. لم تكن الساعة (10:17) إلا وأنا عند الطابور الطويل من سيارات الأجرة.. وفي تمام الحادية عشرة وخمس دقائق نزل الرئيس علي عبد الله صالح ومعه شنطته الدبلوماسية، هذه المرة ركب في المقعد الأمامي، ثم قال لي: توجه نحو شارع العروبة في مصر الجديدة.. طبعاً المسافة طويلة ومزدحمة.. تبادلنا أطراف الحديث.. ولباس الربكة أقل بكثير من المرة الأولى حدّثَني عن صنعاء وعن مبانيها وعن باب اليمن وعن...
استمعت إلى حديثه بكل اهتمام، قطع حبل أفكاري بسؤاله المفاجئ: هل تعرف منزل حسني مبارك؟
قلت له: تقصد قصر الرئيس حسني مبارك؟
قال: "نعم، بس هو زميل ونمون عليه شويّ".
قلت: نعم هو في شارع العروبة في مصر الجديدة..
قال: أعرف أنه هناك..لكن هل تعرف "بالظبط" أين مكانه؟
قلت: كل الشارع ملك له.. إذاً اذهب إليه.. طبعاً توجّهت للقصر.. قلت: يا سعادة الرئيس كيف سنجتاز الحواجز في هذه السيارة؟
قال: لا تخف أنا مرتب كل شيء.. قلت: طيب أخاف يطلقون النار علينا قبل ما نكلمهم.. "يعني تاكسي جاية لقصر الرئيس ما تحس إنها صعبة شوي؟!".
قال.. لا أبد ما عليك (إنت في هالراس والله لأشوتهم كل أبوهم) ..
وصلنا للقصر تجاوزنا الحاجز الأول ثم الثاني والثالث و....و..... حتى وصلنا البوابة الرئيسة فوجدنا الرئيس ينتظرنا وعليه "التي شيرت والشورت..." ثم قال: "علي عبد الله.. ليه ما تجهزت"؟!
قال: أنا جاهز. قال: "يعني بتطلع في اللبس ده"؟ قال: نعم.. هذه خطة علشان ما يعرفنا أحد..!! تجادلا قليلاً أيهم يركب قدام وأيهم وراء؛ فالرئيس حسني يقول: "لا والله ميصحش يا راجل!! ده أنت في بيتنا وأنا اللي لازم أركب قدام".
وعلي عبد الله يقول: "والله حرام وطلاق ما حد يركب قدام إلا أنا.... أنا اللي عازمك وأنا كمان كنت راكب قبلك قدام"... في الأخير قررا أن يركبا كلاهما في المقعد الأمامي.
يعني ثلاثة قدام وما فيه أحد وراء.. والترتيب كالتالي أنا ثم الرئيس علي عبد الله (جامعاً يديه بين ركبتيه ينظر بشوق إلى شوارع القاهرة، ثم الرئيس حسني مبارك طبعاً الرئيس حسني فاتح الشباك ومطلع يده.. وجالس يشرح لعلي عبد الله صالح ..
التفت إلى الرئيس علي عبد الله صالح وسألته: يا سيادة الرئيس، إلى أي مكان تريدون...؟ قال: اذهب لفندق (جراند حياة) طبعاً راح نرجع ثانية.. لأن (جراند حياة) ليس بعيداً عن الماريوت.
توجّهنا إلى هناك، فلما وصلنا البوابة نزل الرئيس علي عبد الله وتوجه نحو الفندق.. وبعد قليل خرج ومعه الرئيس صدام حسين..
وكان صدام ممسكاً بيده السيجار الكوبي الشهير.. أراد أن يركب التاكسي فمنعه حسني وقال ممنوع التدخين في السيارة.. نظر إليه صدام وهو مقطب الجبين: "شنو تحجي إنت؟ منو اللي ممنوع التدخين .... يـُبه أنا أدخن حتى لو يجي بوش ..".
وحسني مبارك يرفع صوته قائلاً: "عليّ الطلاق ما انت مطلع سيجارة وحده في التكسي، وإلا همشي وابقى ادفع أجرة التكسي من جيبك".
احتد الجدال بينهما وأنا أراقب بصمت، فتدخل الرئيس علي عبد الله، وقال: يا جماعة "طيموقراطية طيموقراطية كل شيء بالطيموقراطية = ديموقراطية"!! لكن الاشتباك تجدد مرة أخرى.. أيهم سيركب في الأمام، وبعد مناوشات وأخذ ورد جاء القرار التالي.. أبو زياد "يضف وجهه وراء".. والرؤساء كلهم قدام.. والسواق حسني مبارك بحكم إنه يعرف الطريق.. ولأن صدام مشغول بالتدخين وعلي عبد الله "فل" رزمة من القات في حجره.. ثم بدأ يخزن.. بدأ الحديث بينهم في السؤال عن الأحوال..
وبكل أدب، قلت: يا سعادة الرئيس حسني، أين ستذهبون؟ قال: "وانت مالك انت يا حِشري خلك متلأّح". طبعاً أنا "تلأحت".. ، وفجأة تدخل معه صدام حسين وهو ينظر إليّ بحقد والشرر يتطاير منه قائلاً لي بصوته الجهوري: "لك تخسا أولك.. على شو تباوع أولك .. أولك لك مغرز يغز جلدك شو هالعاوية اللي مطلعهم وياك يا علي .. أولك ما تستحي على نفسك أولك .."!!
وعلي عبدالله صالح يهدئه قائلاً: اهدأ يا بوعدي، اهدأ الله يخليك.. الرجال عرف غلطه ما فيه داعي تحرق أعصابك والله العظيم إن كلمة (أولك) وحده منك تكفيه يرجع في بطن أمه مره ثانية..
وهنا يطلق صدام ضحكة قوية ساخرة هاع هاع هاع هاع .. ثم يربت على كتف علي عبدالله قائلاً له: "أولك هالشكل آني مرعب يا بو أحمد؟! هاع هاع هاع هاع وينفث سيجارته من الشباك .. وأنا في أقصى حالة الهلع التي أعيشها ... ينظر إليهم الرئيس حسني مبارك نظرة ازدرائية من أعلى إلى أسفل، وينظر إليه صدام ليقول له: شو تباوع أولك حسني، فرد عليه: "علي النعمة جبتونا لورى وضحكتوا علينا العالم".. ثم نظر إليّ بحنان وأنا منكمش على نفسي في أقصى سيارتي الأجرة قائلاً: "ما تاخذش في بالك يا أسطه هما دايماً كذا يحبوا يهزروا ".. "أؤعد إنتا وأنا هجيب لك حأك منهم".
رجعت بظهري إلى الكرسي كما طلب مني، وما هي إلا لحظات حتى التفت إليّ علي عبدالله صالح ،وسألني أين فندق (هلتون رمسيس) ياخبير فأخبرته أن يأخذ جهة اليسار مع شارع (القصر العيني) بحيث يكون النيل على جهة اليسار أيضاً.. سار على نفس الطريق ثم دخلنا ميدان التحرير.. وجعلنا المتحف على يسارنا حتى وصلنا للفندق... وهناك نزل الرئيس صدام.. لأن علي عبد الله مخزن وصعب ينـزل.. نزل صدام وهو ينظر إلى بوابة الفندق ثم يلتفت إلى من في التكسي ويتمتم في نفسه بعد أن أطلق ضحكته الشرسة: "وربي وما أعبد لو طلعت وما لقيتك يالعاوي ياني راح أولع نصف الفندق نار".
كنت مهموماً!! من هو الضيف الجديد، وإذا كان رئيس فأين سيركب.. لم أكمل حوار النفس...
وسؤال القلب يخرج في كل زاوية، وهل وجدت كسرة الخبـز الضائعة..؟!
لم يكن عام 1989م يوماً عادياً، ولم تكن تلك السنة من السنوات العجاف لعزيز مصر الأخير فقد كانت سنة وئام..
أعوام مضت والذاكرة تقتنص المشاهد من هنا وهناك، بعضها محفور على جدار الزنازين، والآخر مدفون بالقلب ينبشه الفقراء والمعوزون كل ليلة.. وأنا أسمع توجعاتهم، فلنا ولهم الله..
أأحدثكم عن (17) عاماً مضت وشمس القاهرة تنشر في الشوارع دفئها وحَمَامَات الأزهر تعانق المآذن وتجوب فضاء المدينة الملوث..؟!
أأحدثكم عن (17) عاماً مضت وأنا أجوب بسيارتي التاكسي شوارع القاهرة أبحث عن كسرة الخبز الفاسدة.. وغذاءٌ لأطفالٍ فاغري أفواههم جوعى ينتظرون كاسيهم كما انتظروا عائلهم الأول (الحطيئة)... أين أنا وأين ذاك...؟!!
آه نسيت لقد قلت: إنها سنة سمينة لم تكن من العجاف.. فما لي ولثمن كسرة الخبز الضائعة.. هذه هي أيامي..
أما لحظتها فكنت قادماً من مدينة نصر من شارع عباس العقاد، وهو معروف بكثرة الغادين والرائحين وأزهار العشاق تملأ الأزقة والفضاءات.. وأنوار الحي شاهدة على حب بريء وفاضح.. تركت هذا الشارع بصخبه وهمومه.. فلم أجد فيه من يدفع لي ثمن كسرة الخبز الضائعة...!!
اتجهت نحو طريق النصر بسيارتي التاكسي.. هذا الشارع يُعدّ من أعرض شوارع القاهرة حيث تجد هناك نصب الجندي المجهول، وتجد أيضاً المنصة التي شهدت لحظات قاسية أيام العرض العسكري والذي اغتيل فيه السادات عام 1981.. اعتدت دائماً أن ألقي التحية بقلبي على هذين الصنمين الواقفين على المنصة حتى يُخيّل إليك أنهما قُدّا من صخر فلم أشاهدهما في يوم من الأيام يتحركان أو يلتفتان.. يبقيان واقفين على منتصف المنصة ووجهاهما نحو قاعة المؤتمرات الضخمة.. ألقي بقلبي التحية وأنا سائر وأهمهم بحديث لا تسمعه النفس.. يا لعذابات الفقراء..!!
أخذت (كوبري 6 أكتوبر) هذا الكوبري يريك القاهرة من علٍ .. ارتفاعه عالٍ جداً، وهو طويل يبدأ تقريباً من مدينة نصر وينتهي في الدقي في الجيزة أو العكس...!
لم يكن يصدح في أذني غير ضجيج السيارات والقاطرات..ونداءات أصحاب البسط المتجولة .. وصلت ميدان التحرير وهو قلب القاهرة النابض، تركت المتحف بجانبي وتوجهت نحو (كوبري قصر النيل).. وأنا أبحث عن كسرة الخبز الضائعة.. وهناك وقبل الكوبري ألقيت التحية نحو المبنى الضخم القابع في هذه الزحمة، تحية الخوف والولاء والبراء إنه مبنى جامعة الدول العربية... والذي اعتدت دائماً أن أرى تلك السيارات الفخمة تخرج من بوابته لتدوس أجسادنا، ثم تعلق (البوري) ليكملها بألف شتيمة ولعنة، وكأنهم من كوكب السماء..
التفت كالعادة نحو البوابة الضخمة لأجدد الولاء بلساني.. ورأيت رجلاً يحمل دبلوماسية تدل على الرفاهية.. وهو يشير بيده نحوي أن توقف، أدرت مقود سيارتي نحوه ونحن في مصر لا ننظر إلا لمن هم أمامنا، يعني المرآة لا تُستخدم، وعلى من خلفنا أن يتصرف بطريقته.. وقفت أمام هذا الرجل متوسط القامة، وكنت قد تجاوزته في مسافة تقدر بسبعة أمتار فأشرت إليه أن تعال.. فقال لي: لا.. أنت تعال.. تخاصمنا وفي الأخير رضخت لطلبه.. لأنني أبحث عن كسرة الخبز الضائعة.. قلت له: "وين يا باشا"؟ قال: أريد (مقيل الماريوت) قلت له: تفضل. قال: بكم؟ قلت له: بـعشرة جنيه. قال: "ليش تحسبني مجنون وإلا مجنون ما بلا (9) ولا تشم ريال واحد فوقها".. لا.. هذا كثير والمسافة قريبة قلت: له و (10) جنيه قليلة. قال: لا.. اعتدت أن آتي إلى هذا المكان بـ (9) جنيه. قلت له: لا فرق اركب..
ركب معي وكنت أشم رائحة الشيح منه.. تبادلنا أطراف الحديث وحدثته عن القاهرة.. وسألته: "من وين الأخ"؟ قال: من اليمن، وارتسمت على شفتي ابتسامة تجرني إلى عبق ذلك المكان، وقلت له: حدثني عن صنعاء وعن اليمن.. قال لي: "إيش اسمك".. قلتُ له: أبو زياد..
- "فين تعمل يا بو زياد"..
- قلتُ: سواق تاكسي..
- "أيوه.. كم سنة صار لك تعمل في التاكسي؟"..
- عشر سنوات...
- إذاً أنت تعرف القاهرة كويس..
- بالتأكيد..
وهنا جاء دوري بالأسئلة..
قلت له: ما الذي جاء بك إلى مبنى جامعة الدول..؟
قال لي (وهو ينظر من نافذة التاكسي إلى الشوارع): "مالك.. إيش دخلك..؟"
- لا شيء مجرد سؤال..
قال: عندنا مؤتمر واجتماع.. وقبل قليل انتهينا..
قلت له: ما اسمك..؟
قال لي (وهو يضحك في وجهي): مالك ما تعرفني..؟!
قلت له: لا..
قال: "وهذي الفوضى اللي باسويها بالمؤتمرات والصياح والصراخ عشان الناس ينتبهوا لي والآن تقول لي إنك ماتعرفني ...".
ثم ضرب كفاً بكف وقال لي: يا ولدي أنا الرئيس علي عبد الله صالح..
- "إيش.. مين.." أعد..
- أقول لك: أنا الرئيس علي عبد الله صالح..
لا شعورياً حرفت السيارة نحو اليمين وضغطت على (البريك). التفتُّ نحوه، فلم أصدق ما أرى.. "معقول الرئيس يركب معي"..
قال: "أيوه..".
وقفتُ لحظات فاغراً فاي!! نظر إليّ وقال: "مالك إش جرى لك كنك مخزن بقات سوطي مبودر وطاح من لقفه" .. تشتي تخزن قات.. لم ينتظر إجابتي ففتح الدبلوماسية التي معه.. وأعطاني قات، لكني رفضته، فخزنه هو "مستدركاً كلامه: ياخي أنا لولا هذا القات، والله ما كنت سمعت لي نفس واحد في المؤتمرات حقّنا".. أدرت محرك السيارة بعدما ضاعت كل الأسئلة.. وهي عادة نواجهها حينما نلتقي الكبار يضيع الكلام.. توجهنا نحو الماريوت.. وقبل أن ينـزل قال لي: "يا أبا زياد، أشتيك في الليل في الساعة الحادية عشرة تمرني..".
قلت له: حباً وكرامة..
ودعته ونسيت أن آخذ قيمة الأجرة.. ونسيت كل شيء والقيمة في هذا الموقف لا تعنيني... ركنت السيارة في أقرب موقف، وجلست أفكر في تلك اللحظات وفي هذا الموقف الغريب.. لم أخرج بنتيجة غير الدهشة.
2
أخرجت سيارتي البيجو البوكس من مغسلة السيارات الآلية في شارع الهرم.. وعطرتها.. لم تكن الساعة (10:17) إلا وأنا عند الطابور الطويل من سيارات الأجرة.. وفي تمام الحادية عشرة وخمس دقائق نزل الرئيس علي عبد الله صالح ومعه شنطته الدبلوماسية، هذه المرة ركب في المقعد الأمامي، ثم قال لي: توجه نحو شارع العروبة في مصر الجديدة.. طبعاً المسافة طويلة ومزدحمة.. تبادلنا أطراف الحديث.. ولباس الربكة أقل بكثير من المرة الأولى حدّثَني عن صنعاء وعن مبانيها وعن باب اليمن وعن...
استمعت إلى حديثه بكل اهتمام، قطع حبل أفكاري بسؤاله المفاجئ: هل تعرف منزل حسني مبارك؟
قلت له: تقصد قصر الرئيس حسني مبارك؟
قال: "نعم، بس هو زميل ونمون عليه شويّ".
قلت: نعم هو في شارع العروبة في مصر الجديدة..
قال: أعرف أنه هناك..لكن هل تعرف "بالظبط" أين مكانه؟
قلت: كل الشارع ملك له.. إذاً اذهب إليه.. طبعاً توجّهت للقصر.. قلت: يا سعادة الرئيس كيف سنجتاز الحواجز في هذه السيارة؟
قال: لا تخف أنا مرتب كل شيء.. قلت: طيب أخاف يطلقون النار علينا قبل ما نكلمهم.. "يعني تاكسي جاية لقصر الرئيس ما تحس إنها صعبة شوي؟!".
قال.. لا أبد ما عليك (إنت في هالراس والله لأشوتهم كل أبوهم) ..
وصلنا للقصر تجاوزنا الحاجز الأول ثم الثاني والثالث و....و..... حتى وصلنا البوابة الرئيسة فوجدنا الرئيس ينتظرنا وعليه "التي شيرت والشورت..." ثم قال: "علي عبد الله.. ليه ما تجهزت"؟!
قال: أنا جاهز. قال: "يعني بتطلع في اللبس ده"؟ قال: نعم.. هذه خطة علشان ما يعرفنا أحد..!! تجادلا قليلاً أيهم يركب قدام وأيهم وراء؛ فالرئيس حسني يقول: "لا والله ميصحش يا راجل!! ده أنت في بيتنا وأنا اللي لازم أركب قدام".
وعلي عبد الله يقول: "والله حرام وطلاق ما حد يركب قدام إلا أنا.... أنا اللي عازمك وأنا كمان كنت راكب قبلك قدام"... في الأخير قررا أن يركبا كلاهما في المقعد الأمامي.
يعني ثلاثة قدام وما فيه أحد وراء.. والترتيب كالتالي أنا ثم الرئيس علي عبد الله (جامعاً يديه بين ركبتيه ينظر بشوق إلى شوارع القاهرة، ثم الرئيس حسني مبارك طبعاً الرئيس حسني فاتح الشباك ومطلع يده.. وجالس يشرح لعلي عبد الله صالح ..
التفت إلى الرئيس علي عبد الله صالح وسألته: يا سيادة الرئيس، إلى أي مكان تريدون...؟ قال: اذهب لفندق (جراند حياة) طبعاً راح نرجع ثانية.. لأن (جراند حياة) ليس بعيداً عن الماريوت.
توجّهنا إلى هناك، فلما وصلنا البوابة نزل الرئيس علي عبد الله وتوجه نحو الفندق.. وبعد قليل خرج ومعه الرئيس صدام حسين..
وكان صدام ممسكاً بيده السيجار الكوبي الشهير.. أراد أن يركب التاكسي فمنعه حسني وقال ممنوع التدخين في السيارة.. نظر إليه صدام وهو مقطب الجبين: "شنو تحجي إنت؟ منو اللي ممنوع التدخين .... يـُبه أنا أدخن حتى لو يجي بوش ..".
وحسني مبارك يرفع صوته قائلاً: "عليّ الطلاق ما انت مطلع سيجارة وحده في التكسي، وإلا همشي وابقى ادفع أجرة التكسي من جيبك".
احتد الجدال بينهما وأنا أراقب بصمت، فتدخل الرئيس علي عبد الله، وقال: يا جماعة "طيموقراطية طيموقراطية كل شيء بالطيموقراطية = ديموقراطية"!! لكن الاشتباك تجدد مرة أخرى.. أيهم سيركب في الأمام، وبعد مناوشات وأخذ ورد جاء القرار التالي.. أبو زياد "يضف وجهه وراء".. والرؤساء كلهم قدام.. والسواق حسني مبارك بحكم إنه يعرف الطريق.. ولأن صدام مشغول بالتدخين وعلي عبد الله "فل" رزمة من القات في حجره.. ثم بدأ يخزن.. بدأ الحديث بينهم في السؤال عن الأحوال..
وبكل أدب، قلت: يا سعادة الرئيس حسني، أين ستذهبون؟ قال: "وانت مالك انت يا حِشري خلك متلأّح". طبعاً أنا "تلأحت".. ، وفجأة تدخل معه صدام حسين وهو ينظر إليّ بحقد والشرر يتطاير منه قائلاً لي بصوته الجهوري: "لك تخسا أولك.. على شو تباوع أولك .. أولك لك مغرز يغز جلدك شو هالعاوية اللي مطلعهم وياك يا علي .. أولك ما تستحي على نفسك أولك .."!!
وعلي عبدالله صالح يهدئه قائلاً: اهدأ يا بوعدي، اهدأ الله يخليك.. الرجال عرف غلطه ما فيه داعي تحرق أعصابك والله العظيم إن كلمة (أولك) وحده منك تكفيه يرجع في بطن أمه مره ثانية..
وهنا يطلق صدام ضحكة قوية ساخرة هاع هاع هاع هاع .. ثم يربت على كتف علي عبدالله قائلاً له: "أولك هالشكل آني مرعب يا بو أحمد؟! هاع هاع هاع هاع وينفث سيجارته من الشباك .. وأنا في أقصى حالة الهلع التي أعيشها ... ينظر إليهم الرئيس حسني مبارك نظرة ازدرائية من أعلى إلى أسفل، وينظر إليه صدام ليقول له: شو تباوع أولك حسني، فرد عليه: "علي النعمة جبتونا لورى وضحكتوا علينا العالم".. ثم نظر إليّ بحنان وأنا منكمش على نفسي في أقصى سيارتي الأجرة قائلاً: "ما تاخذش في بالك يا أسطه هما دايماً كذا يحبوا يهزروا ".. "أؤعد إنتا وأنا هجيب لك حأك منهم".
رجعت بظهري إلى الكرسي كما طلب مني، وما هي إلا لحظات حتى التفت إليّ علي عبدالله صالح ،وسألني أين فندق (هلتون رمسيس) ياخبير فأخبرته أن يأخذ جهة اليسار مع شارع (القصر العيني) بحيث يكون النيل على جهة اليسار أيضاً.. سار على نفس الطريق ثم دخلنا ميدان التحرير.. وجعلنا المتحف على يسارنا حتى وصلنا للفندق... وهناك نزل الرئيس صدام.. لأن علي عبد الله مخزن وصعب ينـزل.. نزل صدام وهو ينظر إلى بوابة الفندق ثم يلتفت إلى من في التكسي ويتمتم في نفسه بعد أن أطلق ضحكته الشرسة: "وربي وما أعبد لو طلعت وما لقيتك يالعاوي ياني راح أولع نصف الفندق نار".
كنت مهموماً!! من هو الضيف الجديد، وإذا كان رئيس فأين سيركب.. لم أكمل حوار النفس...
وسؤال القلب يخرج في كل زاوية، وهل وجدت كسرة الخبـز الضائعة..؟!